إن الفوز الحاسم الذي حققه دونالد ترامب في المؤتمرات الحزبية في ولاية أيوا وتقدمه الكبير في الانتخابات التمهيدية المقبلة لا بد أن يضع حداً لأوهام هؤلاء الجمهوريين الذين ما زالوا متمسكين بالأمل في إمكانية إنقاذ حزبهم من براثنه. لن يحدث هذا على وجه التحديد لأن أعداء الرئيس السابق لا يفهمون سيطرته الكبيرة على الناخبين.
ويواصل الجمهوريون المحبطون، والمعروفون باسم (لن ندعم دونالد ترامب أبدا)، والعديد من الديمقراطيين المؤسسيين، العمل كما لو كانت المشكلة تكمن في الرجل فقط. إنهم يتصرفون بناءً على اعتقادهم بأنه لو أمكن التغلب عليه أو إيقافه، لكان كل شيء على ما يرام، أو على الأقل (طبيعيًا)، في السياسة الأمريكية.
ليس هناك شك في أن ترامب يمثل مشكلة للولايات المتحدة الأمريكية. إنه نرجسي مريض ويميل إلى المبالغات الغريبة أو الافتراءات الصريحة. لقد تم وصفه بأنه محتال وكاره للنساء ومحرض على العنف ضد الفئات الضعيفة.
لقد عرف الكثيرون كل هذا منذ أكثر من عقد من الزمان. ومع ذلك، على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها قيادة حزبه وآخرون لتشويه سمعته أو إزاحته، فقد ازدادت قوة ترامب حتى مع سقوط منافسيه الواحد تلو الآخر على جانب الطريق.
يوم 21 يناير 2024، أي بعد أقل من أسبوع من حصوله على المركز الثاني في المؤتمرات الحزبية في ولاية أيوا، انسحب حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس من السباق ليكون مرشحًا عن الحزب الجمهوري.
هناك سببان رئيسيان وراء فشل الحزب في كبح دونالد جماح ترامب. الأول هو أن أولئك الذين يسعون إلى عزله يتجاهلون الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن قاعدة دعمه ترتكز على السخط العميق الذي سبق ظهوره على المسرح السياسي الوطني.
والثاني هو أنه نظرا إلى أن الهجمات ضد دونالد ترامب تنبع من نفس المؤسسات والأفراد الذين استهدفهم الرئيس الأمريكي السابق، فإن هجماتهم لم تؤد إلا إلى تعزيز شعبيته بين أنصاره.
ترامب ليس الديماغوجي الأول في المرحلة المعاصرة الذي يقود حركة شعبوية يمينية. وكان هناك حزب الاستقلال الأمريكي الذي يناصر الفصل العنصري في السبعينيات، والذي أسسه الحاكم الراحل جورج والاس، وحركات الأغلبية الأخلاقية/التحالف المسيحي في أواخر الثمانينيات، و(لواء المذراة) بقيادة بات بوكانان في عام 1988، وحزب الشاي المناهض لباراك أوباما وحركات (بيرثر). كل هذه الأمور مهدت الطريق لصعود ترامب.
منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، عانى العديد من الأمريكيين البيض من الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة من اضطرابات اجتماعية وسياسية وثقافية أدت إلى شعور مقلق بفقدان السيطرة على حياتهم ومستقبلهم.
كانت فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مؤلمة بشكل خاص للعديد من الأمريكيين مع ظهور ثلاث حركات تحولية هزت المجتمع والسياسة والثقافة: حركة الحقوق المدنية؛ والحركات المثيرة للانقسام العميق المؤيدة والمعارضة للحرب في فيتنام؛ وثورة ثقافية قلبت الأعراف الاجتماعية المقبولة رأساً على عقب.
وفي أعقاب هذه الحركات، كان رد فعل ما أسماه الرئيس ريتشارد نيكسون آنذاك (الأغلبية الصامتة): حوادث عنصرية صريحة أو خوف من العنف بدوافع عنصرية؛ إظهار الوطنية المفرطة أو فقدان الثقة في البلد ومؤسساته وقيمه المعلنة؛ وأخيرًا، الشعور بالتحرر من التغيير الاجتماعي والثقافي الجذري.
على مدى خمسين عاماً، ظل الأمريكيون يجسدون صدماتهم في رد فعل على التغيرات المرهقة التي شهدها هذين العقدين المشؤومين. وظهرت مظاهر الخوف ذات الدوافع العنصرية من (الآخرين)، سواء الأمريكيين من أصل إفريقي، أو اللاتينيين، أو المهاجرين.
وباعتبارنا كنا مدفوعين بالآلام التي تكبدناها نتيجة لهزائمنا الكبيرة في حروب خارجية، أو خسائرنا في الوظائف نتيجة لإغلاق المصانع والمناجم، أو غير ذلك من الأزمات الاقتصادية، فقد شهدنا إما الإفراط والمبالغة في الوطنية أو إضفاء طابع رومانسي على (ماضي أمريكا العظيم).
وأخيرا، فإن أولئك الذين شعروا بالتهديد بسبب التحديات التي تواجه القيم الاجتماعية والثقافية المقبولة منذ فترة طويلة، سعوا إلى اليقين، وكثيرا ما انتهى بهم الأمر إلى البحث عن ملجأ في اعتناق المعتقدات الدينية الأصولية.
وقد أدى الانهيار الاقتصادي في الفترة 2008-2009 وانتخاب باراك أوباما إلى الجمع بين هذه الخيوط، ما مهد الطريق لظهور ترامب. وفي غضون أسابيع، هبطت سوق الأوراق المالية، الأمر الذي أدى إلى محو معاشات التقاعد للعديد من الأمريكيين من الطبقة المتوسطة، وتضاعفت معدلات البطالة، وأصبح واحد من كل خمسة منازل معرضاً لخطر الاغلاق بسبب الرهن.
خلال هذه الفترة، أشار أخي جون زغبي إلى أن استطلاعاته أظهرت للمرة الأولى أن ثلثي الناخبين يشيرون إلى فقدان الأمل في الحلم الأمريكي. ومع انتخاب أوباما، انقض الجمهوريون على عرقه و(كونه أجنبي)، مما أثار تساؤلات حول ما إذا كان أوباما أمريكياً أم لا. وكان ترامب أحد المؤيدين الرئيسيين لهذا الجنون.
وفي حين أن كل الشروط المسبقة لصعود ترامب كانت موجودة وتجلت في وقت سابق في أشكال أخرى، فإن ترامب كان فنانا بارعا عرف كيف يستغل المخاوف ويعزف على وتر انعدام الأمان الذي شعر به جمهوره وكيف يبرز القوة واليقين الذي يتوقون إليه.
راح ترامب يؤكد لمؤيديه أنه يتفهم محنتهم، وأنه وحده الذي يملك القوة والعزم لإنقاذهم. وهو يحذر من المهاجرين الذين يجلبون العنف ويستولون على الوظائف، ومن المؤسسات التي كانت تحظى بالاحترام في السابق، مثل تطبيق القانون والمحاكم ووسائل الإعلام.
وبعد عقد من الزمن، سيطرت حركته على الحزب الجمهوري وقد تتمكن من استعادة السيطرة على البيت الأبيض. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها المؤسسة الجمهورية والديمقراطيون، فإنه أصبح أقوى من أي وقت مضى.
لعل من أسباب تنامي قوة دونالد ترامب هو الجهود التي بذلت لمحاسبته على سلوكياته المزعجة وغير القانونية اعتمدت على نفس المؤسسات التي يتهمها ترامب نفسه بالتآمر ضده. ومن خلال التشكيك في نزاهة المحاكم، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووسائل الإعلام، وبالطبع الديمقراطيين، نجح ترامب في تحصين نفسه ضد هجماتهم.
لقد ظل دونالد ترامب يتمسك بورقته الرابحة في استمالة أنصاره ويردد على أسماعهم أنه وحده الذي يفهم آلامهم ومخاوفهم وإحباطاتهم، وأنه وحده القادر على الدفاع عنهم - وبالتالي فإن الهجوم عليه هو هجوم عليهم.
إنهم يتشبثون به وبالشعور بالأمان واليقين الذي يمنحهم إياه. وبالتالي، لن يتم إدانته بتهمة الاعتداء الجنسي أو المحاكمات المتزامنة بتهمة الاحتيال المالي والتحريض وسوء التعامل والكذب بشأن الحيازة غير القانونية لملفات حكومية سرية.
قد يخسر دونالد ترامب هذه الانتخابات، لكن حركته ستظل وستستمر في تشكيل تهديد بالعنف، وربما أكبر من ذلك الذي حدث في 6 يناير 2021.
لا يمكن التسامح مع الفوضى وأعمال التعصب. ورغم أن المساءلة مطلوبة، فإن مجرد هزيمة ترامب ومعاقبته هو وأتباعه ليس كافيا. لا يوجد طريق مختصر للخروج من هذا المأزق. وبدلا من تحقير أو مهاجمة أنصار ترامب، هناك حاجة إلى بذل جهود متضافرة لمعالجة القضايا التي تكمن وراء شعورهم بعدم الأمان والسخط.
إن إيجاد الحلول البناءة والتقدمية التي تظهر الاحترام والاهتمام لن يحدث بين عشية وضحاها، ولكن إذا لم يتم بذل الجهود في هذا الاتجاه، فإن (الترامبية) سوف تتفاقم وتنمو ويزداد زخمها.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك