تغيَّر الهدف الإسرائيلي المعلن من العملية العسكرية في غزّة مراراً، مع تخبّط حكومة نتنياهو، ورغبتها في إطالة أمد الحرب بحثاً عن إنجازات تخفّف وطأة النقمة الداخلية على زعيم اليمين المتطرّف، بعد أن أدرك انتهاء مسيرته السياسية. أخيرا، الهدف هو تقسيم القطاع والسيطرة على نصفه الشمالي ومدينة غزّة وتهجير السكان إلى نصفه الجنوبي. قبل ذلك قالوا تهجير سكّان غزّة إلى الدول المجاورة، والقضاء الكلي على حركة حماس. مضى أكثر من 100 يوم على بدء العدوان الإسرائيلي الوحشي، ولم يتمكّن جيش الاحتلال من القضاء على حركتي حماس والجهاد الإسلامي، رغم كل الدعم المادي والعسكري والسياسي الذي يتلقّاه من أمريكا والغرب.
وبالتالي، تراجعت احتمالات معاقبة «حماس» على تجرؤها على عملية 7 أكتوبر والقضاء عليها واقعيا، فيما أُسقِط حالياً الطرح بتهجير أهالي غزّة خارج فلسطين، بسبب رفض شعبي داخلي في القطاع، وإدراك الناس أهمية الصمود رغم كل القتل والتدمير الذي يلحق بهم، وكذلك الرفض العربي، المصري والأردني خصوصا، للفكرة، تجنّباً لالتزاماتٍ ومسؤولياتٍ ستلحق بالحكومات إذا قبلت باتفاق للتهجير.
لن يحلّ مخطّط تقسيم القطاع، وإفراغ نصفه الشمالي، المشكلة «الأمنية» بالنسبة لإسرائيل، لأن المقاومة باقية، وأثبتت معركة 7 أكتوبر أنها تملك قدرات متطوّرة من حيث التدريب والتخطيط والمعلومات. إذاً عملياً، ليس بمقدور حكومة نتنياهو تحقيق انتصار إسرائيلي استراتيجي، يحقّق الأمان للمستوطنين، بل لقرار الحرب العدمية على غزّة نتائج عكسية على إسرائيل وستمتدّ آثارها سنوات.
كشفت عملية طوفان الأقصى نقاط ضعف عسكرية واستخباراتية لدى الكيان الصهيوني، ومدى تأثير الخلافات الداخلية، وتولّي حكومة نتنياهو بما تضمّه من مسؤولين خارجين عن القانون الإسرائيلي، أو بلا خبرة سياسية، تدفعهم عقلية موغلة في التطرّف والعدمية، تجاه الفلسطينيين، سواء في غزّة أو في الضفة الغربية، عدا عن الانتهاكات تجاه المصلين في الأقصى.
يضاف إلى ذلك ارتفاع عدد القتلى الإسرائيليين منذ 7 أكتوبر (يفوق الـ1500)، وهو غير مسبوق، وهناك مشكلة تحرير الأسرى والرهائن الذي ما زالوا محتجزين.
لقد أحدث ذلك كله جدالاً حادّاً داخل المجتمع الإسرائيلي، وصوّب نحو فشل سياسات اليمين المتطرّف، حيث انخفضت شعبية نتنياهو إلى الحضيض، وهي أصلاً كانت في تراجع مع نية حكومة نتنياهو إجراء تعديلاتٍ قضائية تحول إسرائيل إلى ديكتاتورية. وهناك عودة داخل المجتمع الإسرائيلي إلى نقاش الطروحات اليسارية بإعطاء الفلسطينيين استقلالاً على جزء من أراضيهم وفق «أوسلو»، أو مبادرة السلام العربية في 2002؛ وقد نشهد في المستقبل القريب صعوداً لليسار الإسرائيلي.
أياً كانت نتيجة الحرب، سيكون هناك عرقلة كاملة لتطبيع وضع إسرائيل في المنطقة العربية بعد ما اظهرته من عدوانية متأصلة ضد الفلسطينيين والعرب، لقد ظنّوا أن الشعوب العربية في حالة استكانة، لكن الظرف العربي قد تغير، ولم يعد ممكنا تجاهل الانتهاكات التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني.
يُضاف إلى هذا أن الرواية الغربية عن مظلومية إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها من «إرهاب» حركات المقاومة، وهي رواية صهيونية بامتياز، لم تعد تعمل بعد الأيام الأولى للحملة العسكرية الإسرائيلية على غزّة، والتي استهدفت المدنيين والمرافق الحيوية، وخصوصا المشافي، وأمام مرأى العالم، وقد أوقعت الإعلام الغربي في حرج، خصوصا مع تقارير لمنظمة الصحة العالمية تقول إن «طفلاً يقتل كل عشر دقائق في غزّة».
واضطرت عدة حكومات إلى تغيير مواقفها، وإدانة العدوان الإسرائيلي على القطاع، وذلك بتأثير تظاهرات تضامن عالمية، خصوصا التي تقودها حركات يهودية، ترفض الاعتداء على غزة والفلسطينيين، جزء منهم يرى، ومن موقع عقلاني، أن هذا الاعتداء وسياسات الاستيطان يضران بمستقبل إسرائيل، وجزء آخر، كحركة ناطوري كارتا، لا تعترف بدولة إسرائيل بالأصل.
في الحديث عن حسابات الربح والخسارة، استغلّت إيران، المأزومة اقتصادياً، والتي لم تكن على علم بعملية طوفان الأقصى وفق خطاب أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، استغلّت العدوان، ورقة تفاوض، مع الأمريكان، وأعلنت على لسان نصر الله انتهاء فكرة توحيد ساحات المقاومة، وتخليها عن دعم حركة حماس في معركتها في غزّة، في توافق مع الرغبة الأمريكية بحصر المعركة في غزّة، وتحجيم قدرات حركة «حماس» في المعركة، وقد استقدمت بارجتين إلى المتوسّط لهذا الغرض. وتزعّمت روسيا دعم المقاومة الفلسطينية سياسياً على الأقل، لربط المعركة في غزّة بمعركتها ضد الغرب في أوكرانيا؛ لكنها لا تستطيع أن تلعب دورا في تقديم الدعم العسكري، وخصوصا أن علاقات قوية مازالت تربط موسكو بإسرائيل.
خلاصة القول إن صمود أهالي غزّة، وآلامهم وتضحياتهم، جزء من نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه واستقلاله، وضد الانتهاكات الإسرائيلية. وفي السياق والتوقيت، هناك تحرّكات في الضفة الغربية ذات طابع مدني، وهناك قتل واعتقال من الاحتلال أو من السلطة الفلسطينية. ولن تتوقّف حركات المقاومة ما دام هناك احتلال وانتهاكات وسياسات استيطانية، وهذا يعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة. وخاصة لدى الشعوب العربية.
{ كاتبة صحفية من سوريا
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك