نشرتْ مجلة «الطبيعة» (Nature) مقالاً في 16 يناير 2024 تحت عنوان: «موافقة النرويج على التعدين في قاع البحر يقوِّض جهود حماية المحيط»، حيث أكد المقال أن البرلمان النرويجي صوَّت في 9 يناير 2024 بواقع 80 صوتاً مقابل 20 صوتاً، أي بالإجماع، لصالح السماح للشركات التجارية الكبرى الجشعة للبدء في عمليات الاستكشاف عن نوعية وحجم المعادن المخزنة في قاع بحر النرويج.
وهذه الموافقة الرسمية من البرلمان والحكومة النرويجية تُعد الخطوة الأولى دولياً في هذا المجال التجاري الاقتصادي، وسيَفْتح الباب على مصراعيه للدول الأخرى بالاقتداء بالنرويج والسماح لشركاتها، أو الشركات المتعددة الجنسيات التي تلهث سريعاً وراء الولوج في هذا القطاع الاقتصادي الثري والغني، والمضمون من ناحية الأرباح الاقتصادية من جهة، والسيادة السياسية والنفوذ القوي من جهة أخرى.
فقد بدأ منذ سنوات السباق الدولي المحتدم على تحقيق السبق في تصدير المعادن الضرورية لإنتاج الطاقة المتجددة النظيفة، والتي تدور معاركها في ساحة قاع أعالي البحار، سواء في المياه الإقليمية للدول والتي تخضع لسيادتها، أو في مياه المحيطات الخارجة عن حدود وسلطة الدول، ولا تقع تحت سيادة لأحد، ولذلك فهي تعتبر ثروة طبيعية فطرية عامة ومشتركة للبشرية وكافة دول العالم.
ولكن موافقة النرويج لها أبعاد سلبية تهدد استدامة عطاء وانتاجية الموارد والثروات القابعة في قاع المحيطات، وبعض هذه الأبعاد سياسي وبعضها بيئي. أما البعد السياسي فهذا السماح للاستكشاف في قاع البحار يعد مخالفة لتعهدات النرويج السابقة في مجال حماية المحيطات والإدارة الاقتصادية المستدامة لهذه المحيطات، سواء على المستوى القطري، حيث تعارضتْ هذه التوجهات الجديدة مع مواقف والتزامات وكالة حماية البيئة النرويجية وآراء العلماء النرويجيين، أو على المستوى الدولي حيث تزعمت النرويج لجنة تم تأسيسها في سبتمبر 2018 تحت مسمى «الهيئة العليا للاقتصادات المستدامة للمحيط»، والتي يُطلق عليها الآن «مجلس المحيطات» (Ocean Panel). وهذا المجلس الدولي يهدف إلى بذل الجهود لمنع عمليات الاستكشاف، والتنقيب، واستخراج كنوز قاع البحار الثرية قبل التأكد من سلامة واستدامة كل هذه العمليات على البيئة البحرية القاعية والحياة الفطرية التي تسكن تلك المناطق بشقيها النباتي والحيواني.
وأما البعد البيئي فمتعلق بسبر غور ملايين الكيلومترات المربعة من قاع البحر التي توجد فيها الكنوز المعدنية ولم تمسها أيدي البشر من قبل ولم تفسد أو تعبث فيها، ففي هذه المناطق المظلمة، شديدة البرودة العذراء البكر لا زال العلم في مهده لاستكشاف الأنظمة البيئية الموجودة هناك، إضافة إلى الحياة الفطرية والتنوع الحيوي في تلك المناطق، كذلك العلاقة بين الأنظمة البيئية الموجودة وكيفية تفاعلها مع بعض وارتباطها ببعض. فهناك انطباع عام خاطئ بأن هناك فقراً شديداً في التنوع الحيوي في تلك البيئات القاسية والنائية، ولذلك لا أهمية لها من الناحية البيئية، ولكن هناك دراسة قدَّمت رأياً وانطباعاً آخر، ونُشرت في 19 يونيو 2023 في مجلة «علم الأحياء الحالية» (Current Biology) تحت عنوان: «أنواع الميتازوات التي تعيش في أكبر منطقة لاستكشاف المعادن». وقد أَجْرتْ هذه الدراسة مسحاً للأحياء الحيوانية القاعية متعددة الخلايا (Metazoa) في منطقة (Clarion Clipperton Zone) التي مساحتها تتراوح بين 4.5 إلى 6 ملايين كيلومتر مربع في المحيط الهادئ وتحتوي على الترسبات متعددة المعادن بحجم البطاطس في قاع المحيط (deposit-rich polymetallic nodules). وهذه من المناطق المشتركة للبشرية جمعاء، فهي لا تخضع لسيطرة أحد ولا سيادة لأحدٍ عليها، وموجودة بالقرب من هاواي والمكسيك على سواحل أمريكا الغربية، وعمقها يتراوح بين 4 إلى 6 كيلومترات. وقد كشفت الدراسة الميدانية عن 5142 نوعاً جديداً غير معروفة علمياً من أصل 5578 نوعاً تم الكشف عنها. فمن استنتاجات هذه الدراسة هي أن هذه المناطق البحرية النائية في قاع البحر والتي قد تبدو لأول وهلة صحراء جرداء قاحلة لا حياة فيها، أنها في الحقيقة تزخر بالحياة الفطرية، وهي بيئات حية ومنتجة ومثمرة من ناحية التنوع الحيوي، وقد تكون لهذه الكائنات الفطرية الفريدة من نوعها والجديدة مردودات صحية من ناحية استخراج الأدوية والعقاقير للبشر لعلاج الأمراض المستعصية.
وعلاوة على موافقة النرويج لاستكشاف قاع البحار، فإن الولايات المتحدة بدأت تضغط في هذا الجانب باستغلال نفوذها السياسي القوي على الساحة الدولية، وهي الآن في طريقها إلى الدخول في هذا القطاع الجديد نسبياً لتحقيق المراكز الأولى في السباق الدولي، والتنافس والتفوق على الصين والدول الصناعية المتقدمة الأخرى في الاستحواذ والهيمنة على سوق المعادن التي تعتبر قاعدة انطلاق الثورة الصناعية الجديدة، المتمثلة في مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة في السيارات الكهربائية، وألواح الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها.
وقد أكدت صحيفة «ول ستريت جورنال» في 11 يناير 2024 هذه الحقيقة في المقال المنشور تحت عنوان: «تزايد الدعم السياسي للولايات المتحدة الأمريكية للتنقيب في أعماق البحار». وفي هذا الإطار ومن أجل تحقيق هدف استغلال ثروات قاع المحيطات، وجه أعضاء مجلس الشيوخ خطاباً إلى وزارة الدفاع جاء فيه: «على الولايات المتحدة أن تضمن بأن الصين لن تكون لها السيطرة غير المقيدة على الموارد المعدنية في أعماق البحار». كذلك اتخذت الولايات المتحدة خطوة ثانية في إطار السيطرة على موارد وخيرات قاع البحر، وذلك من خلال توسعة ومَدْ مساحة الجرف القاري تحت البحر لمساحات واسعة جداً بحيث تصبح جزءاً لا يتجزأ من مساحة الدولة تحت البحر. فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في 19 ديسمبر 2023 في المنشور الصادر تحت عنوان: «إعلان عن الحدود الخارجية الممتدة للجرف القاري للولايات المتحدة»، عن الحدود الخارجية للجرف القاري للولايات المتحدة في مناطق تتجاوز 200 ميل بحري من الساحل، ويُطلق عليها «الجرف القاري الممتد» (Extended Continental Shelf). وهذه المساحة اللامتناهية التي ضمتها أمريكا إلى مساحتها تُقدر بنحو مليون كيلومتر مربع، وتحتوي هذه المساحة العظيمة الواقعة في القطب الشمالي وبحر برنج (Bering Sea)على ثروات بحرية فطرية كسرطان البحر، والشعاب المرجانية، إضافة إلى النفط والغاز، والموارد والثروات المعدنية. وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة أخذت أيضاً مساحات إضافية في مناطق أخرى في المحيط الأطلسي وخليج مكسيكو تحت مبرر وحجة الجرف القاري.
فالأحداث الجارية حالياً تؤكد لي بأن السباق قد بدأ الآن فعلياً في الشروع في نهب واستنزاف الثروات والخيرات المشتركة العامة للبشرية جمعاء، حتى قبل اعتماد ضوابط ومعايير دولية بيئية تقنن عمليات الاستكشاف، والتنقيب التجاري واستخراج المعادن من قاع المحيطات. وهذا السباق تشارك فيه الدول الصناعية المتقدمة الكبرى التي تمتلك الآليات والمعدات المتطورة والحديثة اللازمة لهذه العمليات، كما إنها تمتلك الخبرات والمعلومات التقنية والفنية اللازمة للبدء فيها واحتكارها لتنمية دولها وشعوبها، كما فعلت سابقاً في ثروات وموارد ما فوق الأرض وما باطنها.
ولكن ما نصيب الدول النامية من هذه الثروات المعدنية المشتركة للإنسانية برمتها؟
الإجابة عن هذا السؤال تأتي في الدراسة المنشورة في مجلة «سياسة البحار» (Marine Policy) في مايو 2023 تحت عنوان: «المساواة في المشاركة في فوائد التنقيب في أعماق البحار». وقد خلصت الدراسة إلى أن توزيع الثروات بشكل عادل ومتساوٍ مالياً واقتصادياً على كافة الدول هي من اختصاصات ومهمات السلطة الأممية لقاع البحر (International Seabed Authority)، وكما هو متعارف بالنسبة لوكالات وهيئات الأمم المتحدة فإنها ليست لديها السلطة والقدرة على فرض قراراتها على أية دولة، وخاصة الدول المتنفذة والقوية عسكرياً وسياسياً، ولذلك في تقديري فإن الدول غير المشاركة ميدانياً في السباق ستكون خارج حصص توزيع الثروات والموارد الحية وغير الحية المخزنة في أعماق البحار، أي بعبارة أخرى لن يكون لها أي نصيب في هذه الخيرات البشرية العامة والمشتركة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك