جاء الردّ الإسرائيلي على عملية «طوفان الأقصى» التي شنّتها حماس يوم 7 أكتوبر الماضي غاضباً إلى درجة تلامس الجنون. صحيح أن هذه «العملية» ألحقت بالكيان الصهيوني خسائر فادحة في الأرواح، وأدّت إلى أسر عدد كبير من الجنود والمستوطنين، غير أن السبب في ضخامة خسائره يعود إلى فشل «جيشه» الذي يدّعي أنه «لا يقهر»، وإلى عدم كفاءة أجهزته الأمنية التي تدّعي أنها أكثر الأجهزة حرفية في العالم أجمع.
كان الأحرى بـ«إسرائيل»، قبل أن تقرّر كيف ومتى تردّ على هذا الهجوم المباغت والجريء الذي ألحق بها هزيمة لن تمحى، أن تتريّث قليلاً للتعرّف أوّلاً إلى حقيقة وأسباب ما جرى، كي تضمن على الأقل فاعلية الرد وقابليته لتحقيق الأهداف المرجوة منه وضمان عدم تكراره مستقبلاً.
غير أن الطبيعة الاستعلائية والعنصرية للكيان الصهيوني تغلّبت، ومن ثم أغرته بانتهاز الفرصة ليس للانتقام من الشعب الفلسطيني فحسب، ولكن أيضاً لتحقيق المزيد من أطماعه التوسعيّة التي لا تحدّها قيود. صحيح أن «إسرائيل» أكدت أن الحرب التي أعلنتها تسعى لتحقيق ثلاثة أهداف: تدمير قدرات حماس العسكرية، وإسقاط حكمها في قطاع غزة، وتحرير الأسرى أو من تسمّيهم «الرهائن»، غير أن أهدافها الحقيقية تجاوزت أهدافها المعلنة بكثير.
فهي ليست حرباً على حماس، ولا حتى على فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وإنما طالت الشعب الفلسطيني كلّه، ليس في قطاع غزة فحسب، وإنما في الضفة الغربية أيضاً.
ففي قطاع غزة أدت هذه الحرب حتى الآن إلى استشهاد ما يقرب من 25 ألف شخص، وجرح ما يقرب من 60 ألفاً آخرين، 70% منهم من النساء والأطفال، ولا يزال آلاف الأشخاص مدفونين تحت ركام أنقاض البيوت المدمّرة التي وصل تعدادها إلى ما يقرب من ربع مليون منزل، وأجبرت ما يقرب من 2 مليون شخص على النزوح والتكدّس في رقعة جغرافية ضيّقة بالقرب من الحدود المصرية، ولا تزال «إسرائيل» تواصل ضغوطها عليهم لإجبارهم على التوجّه إلى سيناء، في محاولة مكشوفة لإخلاء القطاع، وتخيير سكانه بين الموت أو النزوح القسري.
أما في الضفة الغربية فقد كثّفت «إسرائيل» حملاتها العسكرية التي شملت معظم المدن والقرى والمخيمات، بدعوى البحث عن مطلوبين، وقامت بقتل المئات واعتقال الآلاف وتدمير وإزالة عشرات المنازل، بدعوى عدم حصول أصحابها على تراخيص للبناء، في محاولة مكشوفة لممارسة أقصى قدر ممكن من الضغوط لإجبار سكان الضفة أيضاً على النزوح قسراً إلى الأردن، أو الهجرة إلى أي مكان آخر خارج الوطن.
اليوم، وبعد أكثر من مئة يوم على هذه الحرب الإجرامية الشاملة على شعب أعزل، لم تتمكّن «إسرائيل» من تحقيق أي من أهدافها المعلنة أو المستترة، بل على العكس أضيفت إلى خسائرها الأولية الناجمة عن «عملية طوفان الأقصى» خسائر أخرى جديدة، ما كانت لتلحق بها لو أنها اختارت الرد بطريقة مختلفة تُغلّب العقل على الانفعال.
فمن ناحية، لم يتحقّق لـ «إسرائيل» هدفها الأول من هذه الحرب، ألا وهو تدمير قدرات حماس العسكرية، بدليل أن الأخيرة لا تزال قادرة ليس على الاشتباك مع «الجيش» الإسرائيلي فوق ساحات القتال في غزة وتكبيده خسائر فادحة يومياً فحسب، ولكن أيضاً على إطلاق صواريخ تطال معظم المدن الإسرائيلية، بما في ذلك «تل أبيب» وضواحيها. صحيح أن بعض الخبراء الإسرائيليين، ومنهم اللواء احتياط تامير هايمان، مدير الأمن الداخلي في المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي، يدّعي أن «الجيش» الإسرائيلي استطاع تفكيك «معظم قدرات حماس العسكرية»، لكنّ معظم هؤلاء الخبراء، ومنهم اللواء هايمان نفسه، يعترف بأن حماس لا تزال قادرة على شنّ الهجمات وإلحاق خسائر كبيرة بـ«الجيش» الإسرائيلي، الذي فشل حتى الآن في النيل من القيادات الميدانية.
ومن ناحية ثانية، لا تزال حماس قادرة على التحكّم والسيطرة، ليس على إدارة العمليات العسكرية فحسب، وإنما على إدارة الشؤون الحياتية واليومية أيضاً، وهو ما اتضح بجلاء إبان فترة الهدنة التي جرت خلالها عمليات تسليم الأسرى.
ومن ناحية ثالثة، عجزت «إسرائيل» عن تحرير أي أسير إسرائيلي بالقوة، وكل الأسرى الذين أطلق سراحهم حتى الآن جرى تحريرهم عبر صفقة سياسية أبرمت مع حماس، ما يعني أن الأخيرة لا تزال لاعباً أساسياً يستحيل تجاوزه.
فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن الشعب الفلسطيني في غزة، ورغم كل ما تعرّض له من صنوف الأذى والقهر، رفض الهروب من وطنه وتمسّك بالبقاء فيه حتى الموت، في ملحمة وطنية تاريخية، لتبيّن لنا بوضوح تام أن هذه الحرب لم تحقّق لـ «إسرائيل» أيّاً من أهدافها فحسب، وإنما أدّت في الوقت نفسه إلى انهيار سمعتها ومثولها أمام القضاء الدولي متهمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. فما هي الخيارات والبدائل المتاحة الآن أمام «إسرائيل» لتجنّب الهزيمة الشاملة على مختلف الصعد العسكرية والسياسية والقانونية والأخلاقية؟
أمام «إسرائيل»، في سياق كهذا، بدائل ثلاثة، لكل منها مزاياه وعيوبه، لكنّ أياً منها لن يضمن لها الخروج من هذه الحرب منتصرة بأيّ معيار:
البديل الأول: هو ترجيح هدف إنقاذ الرهائن على أي من الأهداف الأخرى المتعارضة معه، ما يعني تصدّره من الآن فصاعداً جدول أعمال السياسة الخارجية الإسرائيلية.
ولأنّ مؤشرات عديدة تؤكد عدم قدرة «إسرائيل» على تحرير ما تبقّى من أسراها بالقوة، خصوصاً بعد وقوع حوادث قتل خلالها عدد منهم بنيران «الجيش» الإسرائيلي نفسه، فلن يكون أمام حكومتها الحالية من خيار آخر سوى القبول بالتفاوض غير المباشر مع حماس، عبر وساطات مصرية وقطرية. ولأنها تفضّل منهج الهدن المؤقتة، يتوقّع أن تواصل مساعيها وضغوطها في هذا الاتجاه، غير أن فرص نجاحها تكاد تكون معدومة.
فحماس تشترط الوقف التام للعمليات العسكرية، وانسحاب «الجيش» الإسرائيلي من القطاع، وإخلاء السجون الإسرائيلية من كل المعتقلين الفلسطينيين، مقابل إطلاق جميع الأسرى.
ورغم أن هذا البديل يبدو الوحيد القادر على فتح الطريق أمام تسوية حقيقية لمعظم القضايا العالقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلا أن فرص موافقة حكومة نتنياهو عليه تبدو محدودة لأسباب كثيرة.
فهو يعني اعترافاً ضمنياً بالهزيمة، ومن ثم فقد يؤدّي إلى انفراط عقد الحكومة الحالية التي يتوقّع أن تخرج منها العناصر الدينية المتطرفة، من أمثال بن غفير وسموتريتش، وهو ما لن يسمح به نتنياهو. ذلك أن سقوط حكومته الحالية سيقضي حتماً ليس على مستقبله السياسي فحسب، بل وقد يعرّضه للمحاكمة وربما للسجن أيضاً.
لذا يتوقّع أن ترفض الحكومة الحالية هذا البديل وأن تقاومه حتى النهاية. وحتى بافتراض أن تؤدي الخلافات القائمة حالياً داخل مجلس الحرب الإسرائيلي إلى انسحاب كلّ من بيني جانتس وجادي أيزنكوت، فقد لا يعدم نتنياهو وسيلة للعثور على بدائل تمكّنه من تشكيل حكومة جديدة برئاسته، كالتحالف مع ليبرمان مقابل تعيينه وزيراً للدفاع.
البديل الثاني: مواصلة العمليات العسكرية، سواء بنمطها الحالي وبحجم القوات المشاركة فيها، أو من خلال إدخال تعديلات شكلية عليهما، ما يعني أن تتحوّل الحرب الحالية إلى عملية استنزاف طويلة المدى، وهو ما قد لا تحتمله «إسرائيل» لأسباب داخلية وخارجية عديدة.
فعلى الصعيد الداخلي سيواجه هذا البديل بمقاومة متزايدة من جانب قطاعات عديدة من الرأي العام الإسرائيلي، خصوصاً من جانب عائلات الأسرى والمتعاطفين معهم وعائلات جنود الاحتياط، وسيشكّل عبئاً كبيراً على الاقتصاد الإسرائيلي قد لا تحتمله «الدولة» أو المجتمع لفترة طويلة مقبلة، وستكون له انعكاسات سلبية على تماسك الحكومة الحالية التي دبّت فيها الخلافات بالفعل، ومن ثم فقد لا تستطيع الصمود حتى النهاية أمام كلّ هذه الضغوط.
وعلى الصعيد الخارجي، يتوقّع أن يؤدي هذا البديل إلى معارضة قوية من جانب العديد من الدول الحليفة لـ «إسرائيل»، خصوصاً الولايات المتحدة التي يخوض رئيسها انتخابات هذا العام يبدو موقفه فيها ضعيفاً وقابلاً للتأثّر سلبياً أكثر بمرور الوقت، خصوصاً إذا ما استمرت الحرب على الساحة الفلسطينية شهورا طويلة مقبلة. فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أنّ هذا البديل لن يضمن بالضرورة تحقيق أي من الأهداف التي تسعى إليها «إسرائيل» خلال فترة زمنية معقولة، خاصة ما يتعلق منها بتدمير قدرات حماس العسكرية أو تحرير الرهائن، لتبيّن لنا بوضوح أن هذا البديل لن يساعد «إسرائيل» على الخروج من مأزقها الحالي.
البديل الثالث: الهروب إلى الأمام، بتوسيع نطاق الحرب، وهو ما قد يهدّد بتحويلها إلى حرب إقليمية شاملة. وفي تقديري أن هذا البديل يتسق تماماً مع طريقة تفكير نتنياهو، رغم ما قد ينطوي عليه من مخاطر هائلة على دول المنطقة برمّتها.
لذا لا أستبعد أن يقرّر نتنياهو في النهاية اختيار هذا البديل، خصوصاً وهو يرى أن أطرافاً إقليمية عديدة، منها حزب الله في لبنان، وأنصار الله في اليمن، والحشد الشعبي في العراق وغيرها، أصبحت منغمسة بشكل أو بآخر في هذه الحرب، ولن تسمح بإلحاق الهزيمة بحماس، فهل يفعلها نتنياهو، الذي وصل به الجنون إلى حد التهديد ليس بتدمير لبنان وحزب الله فحسب، ولكن باحتلال محور صلاح الدين الذي يفصل بين مصر وغزة أيضاً؟!
أعتقد أن الأسابيع القليلة المقبلة ستكون حاسمة ليس في تحديد مصير ومستقبل نتنياهو فحسب، وإنما مصير ومستقبل المنطقة برمّتها .
{ أستاذ العلوم السياسية
في جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك