ما تهدف إليه حكومة إسرائيل يتمثل في تفكيك الجغرافية الفلسطينية إلى ثلاثة اجزاء لا رابط سياسي أو اداري بينها، ولذلك فهي تعمل من أجل هذا الهدف بسرعة وجنون، فهي تقصف غزة وتحاول إجراء عمليات لا عودة عنها من أجل (تحييد) القطاع أمنيا وسياسيا، وإعداده لتقديمه لكل طرف فلسطيني أو عربي أو دولي يستطيع ان يتحمل وزر ذلك الوضع، شريطة ألا يكون له علاقة بالضفة الغربية المحتلة التي يتم مهاجمتها وحصارها ومحاولة تقزيم السلطة الفلسطينية أو اضعافها أو حتى تفكيكها اذا كان ذلك بالإمكان، اما في القدس المحتلة، فقد استطاعت إسرائيل منذ زمن، وخصوصا بعد صفقة القرن من إخراجها من النقاش إلى حين .
إذن ما تريده إسرائيل من محاولة الفصل الجغرافي وصولا إلى التعدد السياسي والتمثيلي للشعب الفلسطيني تهدف ضمن أمور أخرى إلى وأد الدولة الفلسطينية وما يجر ذلك من إسقاط حق العودة وغياب العاصمة الأبدية ومحو السيادة وتحويل الشعب الفلسطيني إلى مجموعات ديموغرافية غير معرفة، وإذا كان هذا المسعى الإسرائيلي هو ارتداد أو تنكر لكل الاتفاقات السابقة من دون الأخذ بعين الاعتبار أو حتى احترام بعض مطالب الدول العربية أو الدول الصديقة، فإن إسرائيل تعتقد انها قادرة على تسويق هذا المفهوم بمساعدة أمريكية تضمن الكثير من الاغراء أو التهديد أو كليهما، وهنا يكمن سر المطلب الأمريكي بما يسمى (إصلاح السلطة الفلسطينية) أو تأهيلها أو تنشيطها أو تجديدها، وهي مصطلحات جديدة ومريبة وغامضة وتحتمل الشيء ونقيضه، فما هي بالضبط مضامين هذا المطلب وما حدوده ومرجعياته وأهدافه؟!
وللإجابة عن هذا السؤال، وبدون تفاصيل أو فذلكة، ادعي ان هذا المطلب يتوافق مع الرؤية الإسرائيلية الجديدة الحالية، حيث المطلوب سلطة فلسطينية محدودة بالمكان والصلاحيات وهوامش الحركة، سلطة تكتفي بالرمزي والهامشي والخدماتي والبلدياتي والبروتوكولي، سلطة تقبل التكيف والتعايش والمرونة وتقبل ان تتحول إلى مجرد قطعة ديكور في مشهد الديمقراطية الليبرالية المتنورة الإسرائيلية، سلطة تمنح شرعية للنشاط الاحتلالي باعتباره التعبير عن توازنات القوة وانحيازات وتوجهات مستحدثة في الاقليم، المطلوب سلطة تبارك ذلك أو لا تعارضه، وتتعاطى معه تحت شعار الواقعية واشتراطات الحال، فعندما يتم الكلام عن إصلاح السلطة الفلسطينية من دون الكلام عن انهاء الاحتلال وتصفية الاستيطان والتواصل الجغرافي لدولة فلسطينية آمنة ومحمية وقادرة على ان تسهم في الأمن والاستقرار في المنطقة، فإن الحديث عن إصلاح هذه السلطة يعني انه فخ دبلوماسي آخر لخدمة الأهداف الصهيونية ومن أجل الإسراع في تحقيق ترتيبات الأمن لإسرائيل واضفاء مشروعية اقليمية على مشروعها التوسعي. ما اقصده هنا ان الكلام عن إصلاح السلطة كشرط من أجل تهيئة الظروف لدولة فلسطينية الله وحده يعلم متى ستقوم، سيترافق مع إجراءات فورية لدمج إسرائيل في المنطقة من جهة ولتثبيت الخطوات والإجراءات العسكرية والأمنية لحماية إسرائيل من جهة أخرى.
وهذه الخدعة رأيناها في كل مراحل التفاوض، حيث تعطي أمريكا وعودا كاذبة لنا فيما تعطي إسرائيل إجراءات ملموسة وفورية. ان ما ذكره جيك سوليفان في دافوس حول التصور الأمريكي لليوم التالي كما يسمى المتمثل في التطبيع والامن لإسرائيل ودولة للفلسطينيين انما هو شعار عريض وفضفاض جدا لإدارة قد لا تبقى في البيت الأبيض حتى نهاية السنة، وإذا كانت أمريكا صادقة فلماذا لا تنفض التراب عن المبادرة العربية التي قايضت الدولة الفلسطينية وانهاء الاحتلال بالتطبيع الكامل والشامل ؟!
و لماذا تفترض أمريكا ان السلطة الفلسطينية بحاجة إلى إصلاح الا اذا كانت أمريكا وإسرائيل من بعدها تريدان إبقاء السلطة تحت سيف المراقبة وطلبات الحوكمة والشفافية و محاربة (الارهاب) و(التطرف) والدخول في مناكفات حزبية ومجتمعية .
لماذا لا تطلب امريكا من إسرائيل إصلاح احتلالها أو حتى مجرد تخفيفه والاجدر إنهاؤه تماما؟ !
لماذا لا نعترف بأن أمريكا لا تستطيع أو انها لا تريد ان تحاصر أو تنتقد أو تعاقب إسرائيل على أعمالها على الاطلاق، و لهذا فهي تقوم بمعاقبة الشعب الفلسطيني وتحميله مسؤولية الاحتلال ووحشيته. ان المطالبة دائما بأن نكون مجرد ضحية إيجابية، وان يقوم الجميع بلومنا على (فسادنا) أو (إرهابنا) أو (عدم ديمقراطيتنا) أو (انقسامنا) كشرط من شروط اقامة الدولة الفلسطينية، انما هو مجرد إفلاس وعجز وخوف من لوم إسرائيل أو محاسبتها، هذا لا يعني اننا نقوم بعملنا كما يجب أو اننا لسنا بحاجة إلى إعادة اصطفاف أو بضرورة إعادة التقييم، ليس هذا ما أعني، ولكني أقول إن المطالبة بإصلاح السلطة الفلسطينية كشرط للتقدم من أجل انضاج الظروف لدولة فلسطينية انما يعكس عدم جدية وينم عن وجود أغراض مبيتة ويدل على سوء نية، فإن لم يكن ذلك كذلك، لماذا لا تقوم أمريكا بإجبار إسرائيل على وقف الهجمات المستوطنين على المواطنين في الليل والنهار ولماذا لم تعمد أمريكا إلى رفع اسم منظمة التحرير الفلسطينية عن قائمة الإرهاب ولماذا تحول الكلام عن إصلاح السلطة الفلسطينية إلى (شرط) تعجيزي خصوصا في ظل غموض هذا المصطلح .
أخيرا، ان الرؤية السياسية لحكومة إسرائيل الحالية القائمة على الفصل الجغرافي وتخفيض السقف والتمثيل السياسي الفلسطيني يتوافق بشكل ما مع مطاب الإصلاح والتأهيل للسلطة الفلسطينية حسب الرؤية الأمريكية.
{ رئيس مركز القدس للدراسات
المستقبلية بجامعة القدس
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك