نجحت دولة جنوب إفريقيا في جر إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي باتهامها بجريمة الإبادة الجماعية، إذ قدمت جنوب إفريقيا ملفا متكاملا ومفصلا يفوق 80 صفحة شاهده العالم على الهواء مباشرة عند نقل وقائع المرافعة الرئيسية لجنوب إفريقيا أمام المحكمة يوم الخميس الموافق 11 يناير 2024، وكانت المرافعة التي تقدم بها ممثلو هذه الدولة الإفريقية المهمة خطيرة إلى أبعد الحدود لثلاثة أسباب على الأقل:
أولا: إن هذه المرافعة قدمتها دولة تعرضت عبر تاريخها الحديث لجريمة الفصل العنصري «الابارتيد» والتي تحررت منها بعد نضال طويل ومرير استمر عشرات السنين قاده الزعيم الإفريقي الخالد نيلسون مانديلا الذي قضى في سجن حكومة الفصل العنصري الانفرادي أكثر من ثلاثة عقود من الزمان وسط استنكار وشجب ومقاطعة أغلب دول العالم المحبة للسلام حيث اصبح هذا المناضل الفذ رمزا لمقاومة سياسة الابارتيد العنصرية وكان هذا النضال موجعا ومؤلما لكنه في النهاية تمكن شعب جمهورية جنوب إفريقيا من التخلص من النظام العنصري الذي حكم البلاد عقودا، وبالتالي فإن تقديم جنوب إفريقيا هذه الشكوى ضد إسرائيل له معنى الصدقية الكاملة التي لا يمكن أن يشكك فيها أحد بالنظر إلى أن هذه الدولة قد أدانت عملية حماس في 7 أكتوبر 2023 باعتبارها استهدفت عددا من السكان الإسرائيليين المدنيين، وعليه لا يمكن اتهام جنوب إفريقيا بالانحياز ضد إسرائيل.
ثانيا: إن المرافعة الجنوب إفريقية ضد إسرائيل قامت على أدلة وأمثلة واقعية وموثقة بالصوت والصورة من خلال تقارير دولية أممية لا علاقة لها بالفلسطينيين وبالتالي تجنبت هذه المرافعة الاعتماد على تقارير فلسطينية أو حتى عربية كما تجنبت شهادات أو تصريحات للفلسطينيين، ولذلك وجدنا أنها تستشهد بتقارير الأمم المتحدة وتصريحها كبار مسؤوليها وعلى رأسهم أنطونيو غوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة. ومن هذا المنطلق، فإنه لا يمكن الطعن في تلك الشهادات أو التقارير أو وصفها بالانحياز ضد إسرائيل وإلى الفلسطينيين وهذا وجه قوة في هذه المرافعة التي استمرت عدة ساعات واستمع إليها العالم بأسره كما أسلفنا وهي مقنعة إلى أبعد الحدود.
ثالثا: إن المرافعة قد اعتمدت بشكل رئيسي على تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين وأقاويلهم وخطبهم التي أكدوا فيها ما لا يدع مجالا للشك بأنهم يحرضون على الإبادة والقتل الجماعي وإفناء الفلسطينيين وتهجيرهم وتجويعهم وتعطيشهم بل استشهدت المرافعة بما أعلنه صراحة الإرهابي بنيامين نتنياهو بقوله يجب قتل الفلسطينيين جميعهم وإفناؤهم استنادا إلى حجج دينية تكلمت عن «قتل العماليق وإفنائهم عن بكرة أبيهم بشرا وشجرا وحجرا» إضافة إلى تصريحات وزراء الحكومة اليمينية المتطرفة التي يقودها نتنياهو حول ضرورة ضرب غزة بالقنبلة النووية وقتل جميع الفلسطينيين إضافة إلى عشرات التصريحات لكبار المسؤولين الإسرائيليين من وزراء وعسكريين وأعضاء الكنيست والصحفيين بل والمفكرين والأكاديميين تدعو جميعها إلى قطع الماء والكهرباء والغاز والطعام والدواء عن سكان غزة إلى آخر تلك الدعوات غير المسبوقة في التاريخ الحديث والتي تعج بالكراهية والدعوة إلى الإبادة بكل أبعادها، حيث أثبتت مرافعة جنوب إفريقيا بما لا يدع مجالا للشك أن نية الإبادة موجودة بل إن فعل الإبادة موجود حقيقة وإن المسؤولين الإسرائيليين قد فشلوا فشلا ذريعا في منع هذه الإبادة بالقتل أو بمنع تقديم الأغذية الأساسية كالمياه والأدوية والوقود وتوفير الملاجئ والمساعدات الإنسانية الأخرى لسكان غزة.
إن هذه المحاكمة وبغض النظر عن نتائجها هي إدانة أكيدة لإسرائيل ونظامها وأفعالها الإجرامية ضد السكان المدنيين التي قتلت منهم حتى الآن حوالي 30 ألفا وتسببت في جرح وإعاقة حوالي 50 ألفا، علما بأن أكثر من 70% من هؤلاء الضحايا هم من الأطفال والنساء والشيوخ من كبار السن، ومما يزيد من حجم هذه المأساة أن إسرائيل قد دمرت البنية الأساسية للحياة في غزة كي تجبر السكان على أحد الخيارين كلاهما مر الخيار الأول الموت جوعا وبردا ومرضا أو التهجير خارج وطنهم وبلدهم.
إن المرافعة الإسرائيلية التي قدمت يوم الجمعة الموافق 12 يناير 2024 بينت بما لا يدع مجالا للشك أن الحجة الإسرائيلية في الدفاع عن نفسها ضعيفة إلى أبعد الحدود، وخاصة ما يتعلق بحجة الدفاع عن النفس التي لا يمكن استخدامها في حالة الاحتلال، فإسرائيل دولة محتلة وحتى ما يسمى بغلاف غزة فهي أراضٍ فلسطينية محتلة ويحق لمن يتعرض للاحتلال أن يقاوم بجميع الأشكال، وخاصة أن المستوطنين مسلحون ويمارسون جميع أشكال الإرهاب والاعتداء والاستيطان وهي جميعها منكرة، بحسب القانون الدولي. وقد رأينا خلال المرافعة الإسرائيلية ضعف الأداء ليس لعدم كفاءة الأشخاص الذين دافعوا عن الرؤية الإسرائيلية وإنما ناتج عن ضعف الحجة والقضية التي يدافعون عنها وهي قضية الاحتلال والقتل والإبادة والاستيطان، فكل الشكر والتقدير لجمهورية جنوب إفريقيا بلد المناضل الأممي نيلسون مانديلا لوقوفها المشرف إلى جانب الحق الفلسطيني رغم كل التحديات والصعوبات في الوقت الذي تخلت دول كبرى في العالم عن الوقوف إلى جانب الحق الفلسطيني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك