منذ اليوم الأول للحرب في غزة، وإدارة الرئيس جو بايدن تعمل على منع تمددها الإقليمي إلى ساحات أخرى. فمن جهة أولى، كانت عين واشنطن على جبهة لبنان حيث احتمالات التصعيد بين حزب الله وإسرائيل دوما قائمة، ولاحتواء الخطر سارعت الإدارة الأمريكية بإرسال قطع بحرية إلى شرق البحر المتوسط وحشد إمكانيات عسكرية إضافية لتوجيه رسائل ردع واضحة إلى «حزب الله» وراعيه الإقليمي إيران. خلال الأسابيع الأولى للحرب، أسفرت رسائل واشنطن، ومعها تقديرات المصلحة السياسية من قبل «حزب الله» التي ذهبت باتجاه الابتعاد عن مواجهة مفتوحة مع تل أبيب وكذلك تقديرات المصلحة الوطنية للحكومة الإيرانية التي لا تريد تصعيدا مفتوحا مع القوة العظمى وحليفتها في الشرق الأوسط وتخشى على منشآتها النووية ومواقع النفوذ الإقليمي التي راكمتها، أسفرت هذه العوامل مجتمعة عن منع حرب شاملة بين حزب الله وإسرائيل.
غير أن منع الحرب لم يحل دون تبادل إطلاق الصواريخ وهجمات المسيرات بين الطرفين، وهو ما أوقع بعض الضحايا المدنيين هنا وهناك ورتب نزوح أكثر من 100 ألف إسرائيلي وإسرائيلية من قراهم ومدنهم في الشمال وأسقط عددا من القادة الميدانيين لحزب الله في جنوب لبنان. ثم كان أن صعدت حكومة اليمين المتطرف التي يقودها بنيامين نتنياهو من جهة باغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، صالح العاروري، في ضاحية بيروت الجنوبية وبالهجوم على مناطق مدنية، ومن جهة أخرى بإطلاق وزراء ومسؤولين عسكريين تصريحات متتالية بشأن اقتراب الحرب الشاملة مع حزب الله للحد من قدراته الصاروخية ولإبعاده عن المنطقة الحدودية بين البلدين وإعادة الأشخاص المهجرين الإسرائيليين في الشمال.
فعلت حكومة نتنياهو ذلك من دون التفات إلى الضغوط الأمريكية والأوروبية التي طالبت بحماية لبنان وتمكين الغرب من الانخراط في وساطة هادئة باتجاه هدنة طويلة المدى بين إسرائيل وحزب الله. وعلى الرغم من عدم رغبة الحزب وراعيه الإيراني في التورط في تصعيد مفتوح، لم يكن أمامه سوى الرفع الجزئي لعمليات إطلاق الصواريخ والمسيرات على أهداف عسكرية ومدنية في الشمال لإثبات إمكانات الرد وإبعاد شبهة السلبية والاستباحة.
ومن ثم، وبالنظر إلى جبهة لبنان في جنوبه وشمال إسرائيل، يصعب اليوم استبعاد احتمالية الحرب الشاملة إن خرجت الأفعال وردود الأفعال عن السيطرة، وخاصة مع رغبة حكومة نتنياهو اليمينية في إطالة أمد العمليات العسكرية كوسيلة لغاية هي البقاء في السلطة السياسية.
من جهة ثانية، كانت عين واشنطن وهي ترسل قطعها البحرية وتحشد إمكانياتها العسكرية على جبهتين إضافيتين، هما سوريا والعراق. للولايات المتحدة في البلدين قواعد لقواتها المسلحة ولوجودها الاستخباراتي يرتبط بالحرب على عصابات الإرهاب وبقايا تنظيم داعش وحماية حلفاء محليين، ويرتبط أيضا باحتواء النفوذ الإيراني وبتحجيم من ترعاهم الجمهورية الإيرانية كحزب الله والمليشيات الشيعية الأخرى.
ما إن نشبت الحرب في غزة، إلا وكانت رسائل الردع الأمريكية تتجه لمنع الهجمات ضد قواعدها ومنع الخطوات التصعيدية ضد قواتها من قبل أتباع إيران. بعد الأيام الأولى للحرب والتي لم تحدث بها هجمات في سوريا والعراق، تحول الأمر مع استمرار القتل والدمار والكارثة الإنسانية في القطاع إلى كر وفر بين المليشيات الشيعية وبين القوات الأمريكية بضربات متبادلة. كر وفر يحمل بكل تأكيد احتمالية لاستمرار استنزاف تدريجي لواشنطن يورطها في المزيد من العمليات العسكرية والاستخباراتية، ويحمل أيضا احتمالية تمدد سياق المواجهات بتدخل إسرائيل بضربات إضافية ضد أتباع إيران خاصة حزب الله، ويحمل أخيرا احتمالية تدخل الحرس الثوري الإيراني مباشرة في المواجهة مع الولايات المتحدة وإسرائيل بضرب حلفاء محليين لواشنطن في سوريا والعراق.
دخلت جميع هذه الاحتمالات تدريجيا حيز التنفيذ بهجمات المليشيات الشيعية على القواعد الأمريكية، وبضربات الولايات المتحدة وإسرائيل للمليشيات، وبهجمات الحرس الثوري الإيراني على كردستان التي تدير شؤونها حكومة حليفة لواشنطن وذات علاقات جيدة مع تل أبيب وتذرعت طهران لتبرير الهجمات بتهديد أمنها القومي من خلال مجموعات «مارقة» تنطلق من أربيل.
من جهة ثالثة، واجهت واشنطن بعد أيام من حرب غزة جبهة إضافية للتوترات الإقليمية هي المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. فقد تحركت جماعة الحوثي لمهاجمة السفن التجارية القادمة عبر باب المندب والمتجهة إلى إسرائيل موظفة مسيرات وصواريخ أمدتها بها إيران خلال السنوات الماضية.
أضرت هجمات الحوثيين بخطوط الملاحة التجارية والدولية في ممر مائي بالغ الأهمية للعالم، ممر مائي ينتهي بقناة السويس التي هي أقصر الطرق الرابطة بين آسيا ذات الإنتاج الصناعي الكبير ومنطقة الخليج ذات الإمدادات النفطية الضخمة من جهة وبين القارة الأوروبية التي تستورد صناعيا بكثافة من آسيا وتعتمد على بترول وغاز الخليج للوفاء باحتياجاتها من الطاقة.
لم تتوقع إدارة الرئيس جو بايدن تهديدات الحوثيين، ووجهت، كرد فعل مباشر، رسائل ردع إلى الراعي الإيراني، وحين دخلت الهجمات الحوثية على السفن التجارية في نسق تصاعدي سارعت الولايات المتحدة بتشكيل تحالف متعدد الأطراف للعمل عسكريا لتأمين خطوط الملاحة الدولية وحشدت قطعا إمكانيات بحرية بحثا عن ردع فعال.
غير أن التحالف المتعدد الأطراف الذي أعلنه والسفن الأمريكية والبريطانية التي تجمعت في البحر الأحمر لم تسفر عن توقف هجمات الحوثيين، وهو ما دفع واشنطن بالتنسيق مع لندن إلى الهجوم على مواقع مختلفة للحوثيين في العمق اليمني عدة مرات خلال الأيام القليلة الماضية.
كما على الجبهة اللبنانية وفي الساحتين السورية والعراقية، لا يبدو أن نسق الأفعال وردود الأفعال حول اليمن في سبيله إلى خفض مناسيب التوتر الإقليمي عند المدخل الجنوبي لأحد أهم الممرات الملاحية في العالم.
خطر تصاعد التوترات وتداعياتها الخطيرة على أمن الشرق الأوسط، وعلى إمدادات بعض السلع الصناعية الأساسية وإمدادات الطاقة، وعلى قناة السويس، وعلى شركات التجارة والملاحة الدولية وشركات التأمين المرتبطة بها يبدو حاضرا بقوة. كذلك تبدو حاضرة بقوة احتمالية اتساع نطاق المواجهات العسكرية بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وإسرائيل وبين إيران وأتباعها، لترتفع معها فرص الحرب الشاملة على امتداد المنطقة وربما في جوارها أيضا (الهجمات العسكرية المتبادلة بين إيران وباكستان مثالا).
{ أستاذ العلوم السياسية
في جامعة ستانفورد الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك