حتى وقت قريب كان هنالك نوع من الاحترام الشعبي العربي لألمانيا لأن علاقتها «الخاصة» بإسرائيل لم تكن تتصدر عناوين الأخبار، وحتى عندما كانت أخبار توريد ألمانيا لإسرائيل بالغواصات والأسلحة الحديثة تتصدر الإعلام، كان هناك إدراك ضمني بأن عقدة الذنب المنبثقة عن الهولوكوست تطارد الألمان.
بالنسبة للعرب، ألمانيا لم تَقم باحتلالهم، ولم تكن من الدول التي جزأت أوطانهم بل كانت في حرب معها. والحقيقة أن المستشارين فيلي برانت (1969 - 1974) وهيلموت كول (1982 - 1998) وجيرهارد شرودر (1998 - 2005) وانجيلا ميركل (2005 - 2021) قد أسهموا وكل بطريقته في هذه السمعة الجيدة لألمانيا في العالم العربي.
برانت مثلاً كان من أوائل السياسيين الأوروبيين الذين التقوا ياسر عرفات عام 1979، حينها كان رئيسا للحزب الاشتراكي الاجتماعي الألماني، واللقاء الذي شارك فيه أيضا مع مستشار النمسا برونو كرايسكي أصدر بيانا تم فيه التأكيد بأن القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع في الشرق الأوسط، وأن السلام في المنطقة غير ممكن من دون التوصل إلى حل لها وفي البيان، عبروا عن «قلقهم الكبير» إزاء عمليات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا الاجتماع كان جسرا لمنظمة التحرير الفلسطينية للعبور إلى العديد من الدول الأوروبية.
في عهد كول، وخلال احتلال العراق للكويت، أقرت ألمانيا بأن حل القضية الفلسطينية شرط أساسي لحل جميع مشاكل الشرق الأوسط وأن هذا الحل ممكن من خلال مؤتمر دولي وأنها (ومعها فرنسا خلال رئاسة الرئيس ميتران) يريدان من الولايات المتحدة أن يتم إعلان نية عقد هذا المؤتمر بهدف منح العراق خيارا للانسحاب من الكويت بلا حرب.
الولايات المتحدة رفضت، لكنها عقدت مؤتمرا على مواصفاتها الخاصة بعد الحرب (مؤتمر مدريد للسلام 1991).
أما شرودر فقد ابتعد عن السياسات الأمريكية ورفض الانضمام للحرب على العراق العام 2003. ويكفي ميركل أنها فتحت أبواب ألمانيا لاستقبال مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في وقت كان فيه العديد من الدول الأوروبية يغلق الباب في وجوههم ويتركهم يغرقون في البحر.
في سياساتها تجاه إسرائيل والعالم العربي، حاولت ألمانيا أن تمسك العصا من الوسط. فهي من جهة اعتمدت سياسة «أن الحفاظ على أمن إسرائيل هو ركن رئيس في سياستها الخارجية» وأن «حل الدولتين هو شرط ضروري لإحلال السلام في الشرق الأوسط».
هذا الموقف كرره المستشار الحالي أولاف شولتس بعد السابع من أكتوبر بداية في اتصال تليفوني مع نتنياهو ثم في زيارته التضامنية مع إسرائيل يوم 12 أكتوبر قائلا: «إن الحفاظ على أمن إسرائيل هو منطق الدولة الألمانية»، مضيفا إنه وفي هذه «اللحظة لا يمكن أن يكون هناك سوى مكان واحد لألمانيا: الوقوف إلى جانب إسرائيل» وبرر ذلك بالقول: «إن تاريخ ألمانيا والمسؤولية الناشئة عن المحرقة جعلت من واجب ألمانيا الدائم الدفاع عن وجود إسرائيل وأمنها».وللتأكيد على «ثقل» إسرائيل في السياسة الخارجية الألمانية قام وزراء الخارجية والتنمية والدفاع والتعليم ورئيس الدولة بزيارات إسرائيل للتعبير عن التضامن معها. ثم قامت بعض ولايات ألمانيا (ساكسونيا مثلاً) باشتراط الاعتراف بإسرائيل للحصول على الجنسية الألمانية وهو شيء لا يمكن أن يخطر على بال أحد، لأن فيه قبل كل شيء إهانة لألمانيا نفسها، فالدول تعترف أو لا تعترف ببعضها لكن أن يُطلب من كل مواطن وبشكل فردي أن يعترف بدولة أخرى فهذا قمة الذل والخضوع لدولة أخرى.
وما من شك أن ألمانيا سعت بعد أكثر من شهر على أحداث السابع من أكتوبر لمحاولة الموازنة بين تأييدها لإسرائيل ورغبتها في ألا تظهر كما لو أنها تدعم حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل في غزة، لهذا امتنعت عن التصويت في الجمعية العمومية على وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات لغزة، لكن هذا الموقف سرعان ما طغى عليه الإعلان بأن ألمانيا قد طلبت المرافعة أمام محكمة العدل الدولية للدفاع عن إسرائيل لأن ما تقوم به ليس عملية تطهير عرقي.
آن الأون للقول لقادة ألمانيا إن الكيل قد طفح، وإن الماء قد فاض منه، وإن عليهم أن يعلموا:
أولا، إذا كانت بريطانيا قد أعطت وعد بلفور لإسرائيل وسهلت هجرتهم لها قبل الحرب العالمية الثانية، فإن مسؤولية ألمانيا عن النكبة الفلسطينية تعادل مسؤولية بريطانيا.
إن الجريمة التي ارتكبتها ألمانيا بحق اليهود كانت هي السبب في هجرة مئات الآلاف منهم لفلسطين وكانت بالتالي السبب المباشر للنكبة الفلسطينية في العام 1948.
لولا هذه الهجرة لما قامت دولة إسرائيل من الأصل. إنهم بالتالي مسؤولون عن النكبة التي تعرض لها الفلسطينيون وهذا عبء أخلاقي عليهم الاعتراف به والعمل سياسيا على أساسه.
ثانيا، لقد ذبح المستعمرون الألمان أكثر من 70 ألفاً من مواطني ناميبيا بين الأعوام 1904 و1908، واعترفت ألمانيا بأنها قامت بعملية إبادة جماعية في ذلك البلد قبل أربع سنوات، وحاولت التكفير عن ذلك بدفع أكثر بقليل من بليون يورو تم رصدها لتطوير المناطق التي تعرض فيها شعب ناميبيا للإبادة. ولأن المواقف الأخلاقية لا يمكن تجزئتها، فإن ألمانيا مطالبة بالاعتراف بمسؤوليتها غير المباشرة عن النكبة الفلسطينية.
ثالثا، إن الوقوف مع دولة الاحتلال التي تعمل أمام كاميرات العالم جميعه على قتل الآلاف من النساء والأطفال وتحاول تهجيرهم أو إبادتهم بكل الطرق الممكنة ودعمها لها سياسيا وماليا وعسكريا لا يمكن أن يكون موقفا أخلاقيا. إنه مشاركة مباشرة في الجريمة تتطلب الرد عليها بعدم استقبال العرب لأي مسؤول سياسي ألماني قبل أن يصححوا موقفهم الأخلاقي والسياسي.
رابعا، إن من ارتكب الهولوكوست هو ألمانيا النازية وليس الشعب الفلسطيني، ويجب عدم تحميل الشعب الفلسطيني ذنب ألمانيا النازية، وهو ما تفعله حكومة شولتس والحكومات التي سبقتها.
لقد آن الأوان أن تحرر ألمانيا الشعب الفلسطيني من ذنوبها.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك