أكثر من 100 يوم مرت على انطلاق الحرب الإسرائيلية على غزة. وبقدر ما يمر الوقت بقدر ما يثبت غرق إسرائيل في «مستنقع غزة» إذا ما تذكرنا الأهداف التي رفعتها إسرائيل في تلك الحرب من القضاء على حماس في القطاع أو إخراجها كليا من «الملعب» والسيطرة الأمنية على القطاع.
تزداد مع الوقت الضغوط على إسرائيل من طرف أصدقائها في واشنطن وفى عواصم غربية أخرى لوقف حرب «الدمار الكثيف» ضد السكان. الأمر الذي خلق رد فعل كبيرا ومتزايدا ضد السياسة الإسرائيلية على مستوى الرأي العام الدولي وفى العديد من مراكز القرار في عواصم الدول المؤيدة أو المتفهمة للسياسة الإسرائيلية ضد حماس. وبالتالي لا تستطيع أن تستمر تلك العواصم في منح ضوء أخضر لتلك السياسة التي صار المطلوب تغييرها. السلطة في إسرائيل تعيش مأزقا متزايدا في هذ الشأن.
من أبرز مظاهر ذلك الخلاف المتزايد، الذي لم يعد خافيا، بين وزراء اليمين الديني المتشدد من جهة والقيادة العسكرية من جهة أخرى من خلال «الاشتباك» مع رئيس الأركان كما ظهر مؤخرا في اجتماع لمجلس الوزاري المصغر المسؤول عن الشؤون السياسية والأمنية. الأمر الذي انعكس بالتالي على اجتماع الحكومة. أضف إلى ذلك الحملة على رئيس الوزراء نتنياهو واتهامه بأن هدفه من إدارة الحرب واستمرارها الهروب من استحقاق المثول أمام المحكمة لمخالفاته العديدة. تدعي القيادة الإسرائيلية أنها نجحت في إخراج حماس من شمال القطاع وأن معركتها الآن تتعلق بالتخلص من حماس في وسط وجنوب القطاع. وهذا بالأمر المستحيل أيا كان حجم الدمار الذي تنزله الآلة العسكرية الإسرائيلية بالقطاع. أكثر ما نتج عن هذا الوضع دعوة بعض قيادات اليمين المتشدد لإعادة الاستيطان إلى غزة أو العمل على التهجير القسري والطوعي لأهل غزة إلى مختلف بقاع العالم. دعوات تعكس المأزق الإسرائيلي.
يحصل ذلك فيما تنشط سياسة إسرائيل في زيادة الحصار و«والخنق» المادي المختلف الأوجه والأمني لسكان الضفة الغربية، وإقامة المستوطنات الجديدة بغية تهجيرهم مما يرفع من درجة التوتر في المنطقة.
وفى سياق الأزمة الناتجة عن عدم القدرة على تحقيق الأهداف المرتفعة السقف في غزة وربما اضطرارها مع الوقت إلى اعتماد معادلة قوامها عدم وقف الحرب بسبب الرفض الشديد لذلك الأمر، كما عبر عنه أكثر من وزير في الحكومة مهددا بالاستقالة مثل بن غفير وغيره إذا ما حصل ذلك من جهة، والاضطرار من جهة أخرى إلى بلورة استراتيجية حرب جديدة تقوم على «الضربات الجراحية» ضد أهداف «حماسية» مقابل التخفيف من حدة حرب الإبادة التي تقوم بها ضد السكان. كما قد تعمل في السياق ذاته على محاولة إقامة منطقة آمنة في عمق جغرافي ضروري في شمال القطاع يسمح لإسرائيل بالقول إنها حققت أهدافها بحماية «غلاف غزة» وأسقطت تهديد حماس كليا من الجنوب. لكن ذلك الهدف الذي من غير المنتظر إعلانه لأنه يشكل اعترافا كبيرا بهزيمة إسرائيل من خلال منعها من تحقيق الأهداف التي أعلنتها، لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها. إنه هدف تعمل عليه بعض الأطراف الوسيطة ضمن صيغ تدريجية مختلفة تشمل سياسة الهدن المتكررة والمطولة كإجراءات بناء ثقة للتوصل إليه.
ولا بد من التذكير أن إسرائيل ستستمر في حرب ممتدة وغير محددة في الزمان. حرب قد تشهد مع الوقت وبشكل تدرجي تخفيضا لحدة القتال دون وقفه إلى أن يأتي وقت «تجرع كأس السم» والقبول بوقف إطلاق النار على جبهتها الجنوبية أيا كان المسمى الذي سيوصف به الوضع الجديد. الوضع الذي، لإعادة التأكيد، مازال بعيد التحقيق ولكنه البديل الممكن والواقعي عن الهدف الإسرائيلي المعلن في حرب الإبادة والإلغاء التي تشنها إسرائيل ضد القطاع.
وفى إطار الترابط القائم بين «الساحة الفلسطينية الغزاوية» و«الساحة اللبنانية الجنوبية» الذي هو أحد سمات الحرب الدائرة والذي يعترف به الجميع جرى الاحتفاظ لفترة طويلة منذ بداية الحرب بقواعد الاشتباك القائمة في لبنان. وشهدت هذه الأخيرة في مرحلة أولى تصعيدا متماثلا symmetrical أو متوازيا من حيث طبيعة الأهداف والقوة النارية والعمق الجغرافي. ولكن أخذت إسرائيل منحى الخروج عنه من خلال اغتيال صالح العاروري في الضاحية الجنوبية في بيروت، الأمر الذي يهدد بإسقاط قواعد الاشتباك التي كانت قائمة قبل الحرب الحالية. أضف إلى ذلك التشديد الإسرائيلي على هدف إبعاد «حزب الله» إلى شمال الليطاني في إطار استكمال تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 والاشتباك الدبلوماسي والسياسي الدائر حول التنفيذ الكلى لكافة مندرجات القرار، وليس بشكل انتقائي كما تطرح إسرائيل. فالخرق الجوي المستمر للأجواء اللبنانية من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي يشكل أيضا خرقا فاضحا للقرار. قد يؤدى هذا الأمر إلى حدوث انزلاق نحو حرب مفتوحة تزيد من تعقيدات الوضع وتدفع نحو صراع إقليمي متعدد الأطراف والأبعاد ونلحظ بعض إرهاصاته.
على الجبهة الفلسطينية وخاصة الغزاوية المشتعلة لا بد من التوصل إلى وقف إطلاق النار، وهنا مسئولية أساسية للقوى الدولية الفاعلة والمؤثرة لوقف حرب الإبادة الإسرائيلية والتوصل إلى تفاهم مضمون من هذه القوى وغيرها لإرساء وقف إطلاق نار على الحدود الإسرائيلية – الغزاوية، الأمر الذي ليس بالسهل لتقبل إسرائيل بسقوط أهدافها في القطاع، ولكنه في نهاية الأمر، يبقى ذلك كله، رغم العراقيل والصعوبات أمام تحقيقه، أمرا أكثر من ضروري لمنع الحريق الكبير. ويسمح كشرط ضروري، ولو غير كاف، بالعودة بعد ذلك إلى إحياء مفاوضات السلام بشكل جدي وعلى قواعد جديدة. أمر أمامه الكثير من الصعوبات والعوائق ولكنه بالضروري حتى لا يبقى أي وقف لإطلاق النار أيا كان عنوانه مجرد لحظة التقاط أنفاس أو هدنة مطولة تعود بعدها المنطقة إلى التوتر والاشتعال والحروب المفتوحة. هذا هو أحد أهم التحديات التي يواجهها الشرق الأوسط في مطلع هذا العام.
{ وزير خارجية لبنان الأسبق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك