في خضم الجدل حول المشاركات الإقليمية والدولية في العملية البحرية التي أعلنتها الولايات المتحدة لحماية الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر «حارس الازدهار» في ديسمبر 2023، ما بين انضمام وانسحاب بعض الدول منها، أثيرت تساؤلات عديدة حول إمكانية مشاركة حلف «الناتو» من عدمه في تلك العملية، وهي تساؤلات لها ما يبررها، سواء بالنسبة للقدرات البحرية للحلف أو شراكاته الإقليمية والتي كان الأمن البحري أحد مجالات التعاون فيها، أو بالنظر إلى خبرات الحلف السابقة في حماية الأمن البحري، فالناتو لديه قوات بحرية هائلة مقسمة إلى عدة مجموعات وتتولى قيادتها دول الحلف بالتناوب، وعلى صعيد الشراكات فضمن مبادرة الحوار المتوسطي التي أطلقها الناتو للحوار مع 7 دول متوسطية عام 1994 تقوم بعض سفن الحلف بزيارات دورية لموانئ الدول الشريكة بالإضافة إلى تقديم الحلف دورات متقدمة لأفراد القوات البحرية من تلك الدول ضمن المؤسسات الأكاديمية للحلف، ويتكامل ذلك مع جهود الحلف في البحر المتوسط لحماية الأمن البحري، ومن ذلك تحالف حارس البحر الذي أطلقه الحلف عام 2016 وهو عبارة عن دوريات بحرية تقوم بها سفن وغواصات وطائرات تابعة من بعض الناتو في المنطقة المركزية من البحر المتوسط وتستهدف التحذيرات البحرية ومكافحة الإرهاب وبناء القدرات ويتم تنفيذ تلك الأهداف من جانب الناتو وبالتعاون مع بعض الشركاء في مبادرة الحوار المتوسطي وقد جاءت تلك العملية امتداداً لعملية المسعى النشط التي أطلقها حلف الناتو عام 2001 كأحد ثمانية ردود على أحداث الحادي عشر من سبتمبر واستهدفت تفتيش السفن في البحر المتوسط والتي يشتبه أنها تحمل إرهابيين أو تقوم بعمليات تهريب، فضلاً عن إرسال حلف الناتو قوات تحت مسمى «درع المحيط» للمشاركة في الجهود الدولية لمواجهة القرصنة قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي عام 2009 في أعقاب القرارات الأممية التي أشار بعضها وللمرة الأولى لدعوة المنظمات الإقليمية للمشاركة في تلك الجهود الدولية المشتركة، بالإضافة إلى أن أحد بنود مبادرة حلف الناتو للتعاون مع دول الخليج العربي التي أعلنها الحلف عام 2004 وانضمت إليها 4 دول كان «مكافحة الإرهاب من خلال تبادل المعلومات والتعاون البحري».
فهل يعني ما سبق أن الحلف سيكون طرفاً في تحالف الازدهار لمواجهة تهديدات الأمن البحري في باب المندب والبحر الأحمر؟ وواقع الأمر أن الولايات المتحدة الأمريكية لطالما دعت حلف الناتو إلى الانخراط في التحالفات وكان رد الحلف القبول أحياناً والرفض أحايين أخرى، ففي عام 2017 أعلن ينس ستولتنبرج الأمين العام للحلف انضمام الناتو إلى التحالف الدولي لمحاربة داعش، لكنه أضاف :«لا يعني ذلك أن الحلف سوف يشارك في عمليات قتالية»، إلا أنه على الجانب الآخر أخفق اجتماع لوزير الدفاع الأمريكي مع نظرائه في دول حلف الناتو في إقناعهم بالانضمام إلى التحالف العسكري البحري لأمن الملاحة في الخليج العربي الذي أعلنت الإدارة الأمريكية تأسيسه في أعقاب الاعتداء على ناقلات النفط في الخليج العربي عام 2019، وما بين هذا وذاك كان التعاون الأمريكي الأطلسي جلياً خلال التدخل العسكري في ليبيا عام 2011 فلولا الجهود العسكرية الأمريكية خلال الأيام الأولى من ذلك التدخل لما كان الحلف لينجح في الإطاحة بالنظام الليبي آنذاك.
ومع أهمية خبرات الحلف للعمل ضمن تحالفات فإن ذلك لا يعني بالضرورة تدخل الحلف بشكل تلقائي في الأزمات أو أن يصبح طرفاً في تحالف الازدهار لخمسة أسباب أولها: بغض النظر عن طبيعة التهديدات سواء أكانت تجيء من البحر أو البر فإن للحلف شروط للتدخل في الأزمات خارج أراضيه ومنها ضرورة وجود قرارات أممية يرتكز عليها وبالطبع لا تشير تلك القرارات للحلف بالاسم ولكن تشير إلى مشاركة التنظيمات الإقليمية، فضلاً عن ضرورة تحقق إجماع أعضاء الحلف على أن تلك الأزمات تمثل تهديداً لمصالح الحلف، وثانيها: الدروس المستفادة للحلف ،فمع أن الحلف يفضل العمل ضمن جهود دولية ،إلا أن للخبرات السابقة تأثيرا على قرار التدخل من عدمه، فالجدل الذي أثير خلال تدخل الحلف قبالة سواحل الصومال عام 2009 كان حول مدى قدرة سفن الحلف الضخمة بطيئة الحركة مقابل زوارق القراصنة السريعة وهو الأمر ذاته الذي يتكرر الآن ولكن على نحو مختلف من حيث كلفة الصاروخ التي تبلغ مليوني دولار للتصدي لمسيرة الحوثيين التي لا تتجاوز ألفي دولار، وثالثها: أن جزءًا من الاستراتيجية الدفاعية للحلف هي سياسة الردع والتي يعتمد عليها في مواجهة التهديدات خارج أراضيه، إلا أن باب المندب والبحر الأحمر يعني تماساً مباشراً مع جماعة الحوثي وربما إيران بما يعنيه ذلك من اتساع رقعة الصراع مما قد يستدعي أطرافاً أخرى إقليمية أو عالمية، ورابعها: مع إدراك الحلف لطبيعة التهديدات التي تواجه الملاحة البحرية فهي تمثل تهديداً مباشراً لدوله الأعضاء من ناحية وشركاء الحلف الإقليميين من ناحية ثانية مما يثير تساؤلات لدى هؤلاء الشركاء حول دور الحلف في مواجهة تلك التهديدات فإن الحلف لديه حرص بالغ في الوقت ذاته على الحفاظ على الشراكات التي أطلقها تجاه المنطقة بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة وهما الحوار المتوسطي 1994 واستانبول 2004 ويتجنب تأثير العمل العسكري على تلك الشراكات، وخامسها: أن المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف الذي أعلنه عام 2022 كان من بين أولوياته مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والساحل الإفريقي على عكس بعض المفاهيم السابقة التي أشارت صراحة إلى تهديدات أمن الطاقة على سبيل المثال وسبل مواجهتها على نحو محدد.
ولكن لا يعني ما سبق أن الحلف سيكون في موقف المراقب لتلك الأحداث لسبب بسيط مؤداه أنه لا يمكن تحديد قاعدة واحدة يمكن البناء عليها في التدخل الأطلسي من عدمه، وخاصة إذا كانت التطورات في مضيق باب المندب والذي يمثل نقطة تماس استراتيجي لتنافس القوى الإقليمية والعالمية تسير نحو وضع أسوأ وتستدعي حضوراً دولياً كثيفاً فيها بما يعنيه ذلك من توقع ترتيبات جديدة بها لن يكون الحلف ببعيد عنها بغض النظر عن مضمون المادة الخامسة التي قد يراها البعض قيداً على العمليات العسكرية لحلف الناتو خارج أراضيه، فهناك بعض الدول الأوروبية لديها عضوية مشتركة بين الاتحاد الأوروبي والناتو ولكنها ترى أن مشاركتها في أي جهود لحماية الملاحة البحرية في باب المندب لن تكون سوى من خلال مظلة الناتو.
وبغض النظر عن مشاركة الحلف من عدمه لا بد من تأكيد دور الحلف في النظام الأمني العالمي، فخلال سؤال موجه إلى مسؤول من الناتو: لماذا يتدخل الحلف في الأزمات مع أن ذلك دور الأمم المتحدة، فكانت الإجابة ببساطة أن الحلف لديه جيش على عكس المنظمة الأممية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك