بعض منا، يتحدثون بألسنتنا، ويلبسون ملابسنا، ولكنهم عندما يرغبون في الصلاة والسجود فإنهم يدخلون محاريب الشرق والغرب، فيُصلون ويسجدون هناك، ويطلبون منهم الغفران والمنح والعطايا.
في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات كانت دول الشرق الاشتراكي تمثل الأيقونة الثورية في العالم، فكان الكثير من الشباب – من الجنسين – من الوطن العربي يصلون في محاريبها، حتى هوت الأسطورة وتدمر كل الكيان المادي الهش، ولكن للأسف مازال الكثير منا يرفض أن يخرج من تلك المعابد.
حينها، برز الغرب ككيان واحد أوحد يسيطر على العالم، فانبهر بالغرب وحضارته وعلومه وديمقراطيته سواد كبير من العرب والمسلمين، فتنادوا إلى محاريب الغرب لأداء الصلاة والسجود وطلب المغفرة، ومنذ سقوط الشرق وانتهاء وجوده أصبح الغرب قبلة لهم.
ولكن من جهته، كان الغرب ينظر إلى كل تلك الشعوب بنظرة مختلفة، بنظرة الذئب الذي يراقب الشياه في السهول، فما إن تحاول إحدى الشياه أن تبتعد عن القطيع حتى يهجم عليها، إما أنه يأكلها أو تنتبه إلى نفسها فتعود إلى القطيع، وكان في الغالب يسبقها فيقطعها إربًا ويفصل أعضاءها ويفتت جسدها من أجل أن يبقى القطيع خاضعًا لسلطته ساكنًا يأكل ويشرب من غير أي تفكير أو طلب للحرية بعيدًا عن سلطته.
ومن أجل الشعوب التي تمردت أو تفكر في التمرد، فإنه يحرك جيوشه ومعداته العسكرية وينادي بأعلى صوته، «تلك الحكومات دكتاتورية ولا ترغب للشعوب بالحرية، ونحن من سيفك قيد الشعوب ويحررها ويمنحها الحرية والديمقراطية»، ثم يأتي بأساطيله الجرارة ليدمر ويضع الجميع تحت جناحه، فلا شعب أخذ حرية ولا إنسان شعر بالسعادة، فالجميع ارتبط بالدولار وبالوهم.
كل ذلك كان ورقة التوت، التي كانت تُخفي خلفها أبشع صورة لدول ورغبات استعمارية، تحاول أن تفرض سيطرتها المادية والدموية على دول العالم، حتى جاء اليوم الذي سقطت فيه ورقة التوت تلك، وهو اليوم السابع من أكتوبر 2023، حينما تبين للعالم أجمع أن هذه الدول حتى ليست كما كانت تدعي، فالأمور لديها كانت مجرد أوراق هشة بالية تخفي تحتها أكواما من الانحطاط والرماد والركام البالي.
بعد السابع من أكتوبر اكتشفت شعوب تلك الدول نفسها، أن دولهم تخدعهم بشأن ما يحدث في فلسطين فخرج مئات الآلاف يطالبون بوقف المجازر والمذابح التي تطول المدنيين العزل، وطالبوا بوقف الحرب، كانت الجماهير تتدفق من كل دول الغرب من غير استثناء، ولكن تلك الحكومات التي من المفروض أن تكون ديمقراطية أعلنت في بداية الأمر أنها ستعتقل كل من تسول له نفسه الخروج في تلك التظاهرات، ولكن الجماهير لم تسكت، فخرجت في مسيرات ضخمة وكان موقفها واضحًا ولا يحتاج إلى مواربة، ويومًا بعد يوم كان عدد الجماهير يزداد، واليوم وبعد حوالي أكثر من 100 يوم من (الحرب على الحياة) هل استجابت حكومات الغرب لمطالب شعوبها؟ ماذا يمكن أن يسمى هذا؟
هل هذه دكتاتورية أم ديمقراطية، أم ديمقراطية مغلفة بغلاف الدكتاتورية، أم العكس؟ حقيقة لا أعرف.
ونحن هنا لا نتحدث فقط عن الغرب وأوروبا، وإنما حتى ذلك الكيان المحتل الذي يدعي أنه الدولة الوحيدة الديمقراطية في الشرق الأوسط، يحدث فيها نفس الأمر، إذ تنقل الينا وسائل الإعلام المختلفة كل تلك المسيرات والتظاهرات التي تطالب قيادة ذلك الاحتلال بإنهاء الاعتداء ووقف الحرب والسعي للمفاوضات لاسترجاع الأسرى إلا أن تلك القيادات الدموية متحجرة القلب تعالت على كل تلك الأصوات وكل تلك الرغبات، واستمرت في غيها وعنجهيتها وصلفها ودكتاتوريتها ضاربة بالديمقراطية عرض الحائط، غير عابئة برغبات الشعب والكلام الكثير الذي صدعوا به رؤوسنا طوال كل تلك الأعوام.
من جهة أخرى، فإن الإعلام الغربي بمختلف مستوياته لا يتطرق إلى موضوع الحرب والاعتداء والاحتلال وكأن الأمر قضية تافهة، وخلاف يمكن سحقه ببعض الرصاصات والقنابل وما إلى ذلك، وإن تطرق إلى الموضوع فإن ذلك الإعلام العاهر ينقل الصورة بطريقة مغايرة تمامًا، بطريقة فجة وقحة، ويصور الحدث وكأن هناك جماعة إرهابية ظلامية تحاول المساس بصرح دولة ديمقراطية وتحاول تلك الجماعة أن تعيد تلك الدولة الحضارية إلى عهود الظلام، جماعة إرهابية تحركت في السابع من أكتوبر – فقط – لمحاربة التطور والحضارة والتكنولوجيا، ذلك الإعلام يتجاهل كل ذلك التاريخ الذي يزيد على 75 سنة من البطش والإرهاب والاحتلال والقتل وسفك الدماء، تحاول تلك الوسائل أن تطوي كل هذا التاريخ الدموي من خلال الكم الهائل من الأكاذيب والزيف وتحريف التاريخ.
ليس ذلك فحسب، وإنما بعض مقدمي البرامج التلفزيونية في دول الغرب يرفضون التحدث عن حقيقة ما يجري، فإن استضافوا أحد المنصفين – حتى لو كان من مواطني الغرب – فإنهم يهاجمونه وبقسوة وكأنه يريد أن يزيف الحقائق، على الرغم من أنهم هم الذين يزيفون الحقائق بطريقة فجة.
الإعلام الغربي لا ينقل الحقائق كما هي، ليترك الفرصة للشعوب باتخاذ قرارها وحدها، وإنما ينقل ما يرغب الاحتلال في طرحه ومن وجهة نظره هو فقط، لذلك يغلف الحقائق بغلاف زائف وأباطيل ويدعي أنها حقائق. ولكن الشعوب استطاعت من خلال وسائل التواصل الحديثة أن تخترق هذا الحظر الإعلامي الذي طوقه الإعلام الغربي والاحتلال على عقول الشعوب، فانطلقت لتوعية الشعوب وإلقاء الضوء على الحقائق المجردة، لذلك تحركت الشعوب رافضة هذا الطوق وهذا الزيف الإعلامي وهذه الأوهام.
مرة أخرى، هل هذه دكتاتورية أم ديمقراطية، أم ديمقراطية مغلفة بغلاف الدكتاتورية، أم العكس؟ حقيقة لا أعرف.
ثم نأتي من جانب آخر إلى منظمات الأمم المتحدة، كلها ومن غير استثناء، حقوق الإنسان، حقوق الطفل، حقوق المرأة، حماية البيئة، منظمة الصحة، منظمة الزراعة والغذاء، اليونسكو وغيرها الكثير. كل تلك المنظمات تعلن أن غزة تواجه (خطرًا جسيمًا)، ولكن ماذا فعلوا لمواجهة ذلك؟
وقفت كل تلك المنظمات تتفرج، وتسجل مواقف في ورق وتسرد الأحداث فقط، وتعلن أعداد الوفيات والانتهاكات، والدمار، وكأن الذين يموتون وتصعد أرواحهم إلى السماء مجرد أرقام وليسوا بشرًا من حقهم أن يعيشوا. الجدير بالذكر انها كانت تسجل كل تلك الانتهاكات من غرف مكيفة مغلقة، ويشاهدون كل ذلك من خلال الفضائيات، ولم تتجرأ أي من تلك المنظمات أن تحرك حشودها لتقترب من موقع الحدث، على الرغم من أن ميزانياتها كلها قائمة على مساهمات الدول والشعوب. هذه المنظمات وقفت تنتظر الإشارة الخضراء من دول استعمارية لا يهمها الإنسان، من أجل أن تتحرك، ومازالت تنتظر.
هل هذا التحكم من الدول التي تدعي أنها دول عظمى بمصائر البشر، وذلك من خلال قطع أذرع المنظمات الدولية التي ما أنشئت إلا لمساعدة الشعوب الذين يحتاجون إلى مساعدة، يعتبر منصفًا؟ أم أن هذه المنظمات دورها ووظيفتها أن تجلس في المكاتب تهدد وتتوعد وتندد، وفي النهاية يطير كل هذا كما يطير الدخان عندما تفتح النوافذ؟
مرة أخرى، هل هذه دكتاتورية أم ديمقراطية، أم ديمقراطية مغلفة بغلاف الديكتاتورية، أم العكس؟ حقيقة لا أعرف.
والآن، وصل العالم إلى محكمة العدل الدولية، التي من المفروض ألا توجد قوة على الكرة الأرضية تتحكم فيها وفي قراراتها، ترى ماذا سيحدث؟ هل ستنصاع هذه المحكمة للقوى الاستعمارية الاحتلالية وتلوي عنق الحقيقة، فيصدر القرار أن دول الاحتلال لم تقتل الحياة في غزة وفلسطين طيلة العقود الماضية؟ أم ستنظر للحقيقة وستصدر القرار العادل من أجل أن تتنفس الشعوب الصعداء ولتتأكد هذه الشعوب أنه مازال في الكرة الأرضية مكان يمكن أن ينصف الضعيف مقابل القوة الهمجية.
ليس ذلك فحسب، وإنما حتى وإن صدر القرار الذي ينصف أهل غزة وفلسطين هل ستنصاع دولة الاحتلال التي يعتبر جيشها من أكثر الجيوش التي تحارب بطريقة أخلاقية في العالم كما قال رئيس وزرائهم؟ هل ستتوقف الحرب والدمار وقتل الحياة؟ أم سيستمر المحتل والدول الغرب في غيها وغطرستها وعنجهيتها وصلفها ووحشيتها على اعتبار أن هذه هي أخلاق الحروب؟
وقبل أن أختم مقال اليوم أود أن أعتذر للشاعر العربي الكبير إبراهيم ناجي لأني استعرت من رائعته (قصيدة الأطلال) عنوان المقال، وقمت بربطها بالغرب وديمقراطيته المزعومة، ولكني بالفعل لم أجد أي تعبير أجمل من هذا البيت الشعري للشاعر ناجي، فكأنه يصف هذا الكيان الذي يدعي أنه رب الديمقراطية والحريات في العالم، ولكن كل هذه الهيمنة مجرد خيال ووهم، وخيوط دخان تتطاير في الهواء مع رياح الحقائق.
وأخيرًا نقول للبشر من أمتنا الذين ما زالوا يركعون ويسجدون في محاريب الشرق أو الغرب، نقول: إلى متى هذه الغفلة؟ متى ستفيقون، وتحولون قبلتكم إلى الوجهة التي من المفروض أن تكون؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك