برأيي أن الأهداف الحقيقية لوزير الخارجية الأمريكية انتوني بلينكن التي تقف خلف زياراته المكوكية للمنطقة تتلخص أولاً في حماية إسرائيل من المخاطر الخارجية والداخلية على حدٍ سواء، أو قل إن بلينكن يهدف ضمن أمور أخرى إلى ترشيد الغضب الإسرائيلي أو تخليصها من عقدة الزوال او انكشاف الظهر، وهذا الهدف يتجلى في النصائح العلنية والسرية لتغيير وتيرة الحرب بحيث تكون «نظيفة» و«محتملة» و«غير مكلفة» و«منسية» إلى حدٍ كبير حتى لا تخسر إسرائيل صورتها ولا سرديتها وحتى لا تنفجر من الداخل تمزقاً وجدلاً وانقساماً، النصائح الامريكية التي تقدم لإسرائيل ولكـنها اعتذارات تخفي الشراكة والتخطيط والاعداد المشترك لهذه الحرب، لذلك فإن كل ما يقال عن خلافات بين أمريكا وإسرائيل هو مجرد خلاف على الشكل لا على المضمون على الإطلاق.
أما الهدف الثاني لوزير الخارجية الأمريكية فيتمثل في إبقاء الإجماع الإقليمي العربي على ضرورة استمرار التعامل مع إسرائيل من جهة وعلى ضرورة المساهمة الأمنية والمالية في ترتيبات ما بعد الحرب وكذلك ضمان الضغط والضبط للأطراف الفلسطينية ومحاولة تعويضها أو ترويضها أو حتى تهديدها من خلال أطراف عربية عديدة إغراء أو تهديداً أو كليهما، ولأن بلينكن لم يعد يتحدث عن المبادرة العربية أو اتفاق أوسلو أو حتى صفقة القرن، فالمقصود هو ترتيب أمني سياسي يحتاج إلى غطاء عربي يمنح الشرعية للأوضاع الجديدة، حيث يتم – بحسب أمريكا وإسرائيل- استبعاد حماس و«تحديث» السلطة الفلسطينية ومحاولة ربط قد تكون رمزية بين الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة الذي سيعاد محاصرته بشكل جديد.
الهدف الثالث الذي يرمي إليه بلينكن برأيي هو تسويق وهم الدولة الفلسطينية للمرة الألف دون إجراءات أو خطط أو خطوات حقيقة على الأرض، إن التلويح بهذا الشعار سيطرب العالم العربي بالذات، وسيكون من السهل عليهم -تحت هذا الشعار- الذهاب بعيداً في الإبقاء على علاقات مع إسرائيل بما يضمن ذلك اتفاقات تجارية وسياسية.
بلينكن يقول علناً إن الجميع متفق على أن هدف إقامة الدولة هدف يحتاج وقتاً، وهو يعرف أن إدارته قد لا تكون في البيت الأبيض لسنة أخرى قادمة، وربما يكون الهدف الرابع للرجل يكمن هنا في تحسين صورة إدارة بايدن أمام جمهوره القلق والمستنكر لما يجري في قطاع غزة، أي أن المطالبة المثيرة للسخرية بتقليل الإصابات في صفوف المدنيين الفلسطينيين بالتوازي مع تدفق المساعدات اليهم ما هي إلا ضريبة كلامية يقدمها بلينكن لجمهوره أكثر مما هي موجهة للإسرائيليين أو الفلسطينيين، إذ أن هذين الطلبين لا يستويان على الإطلاق وفيهما استهتار واستخفاف بالقانون الدولي والحياة الإنسانية أيضاً.
الهدف الخامس وراء دبلوماسية بلينكن هو إبقاء هذه الحرب مستعرة لأن مصلحة أمريكا هي اقتلاع مقاومة الفلسطينيين حقاً وإنهاء أي مخاطر أمنية تواجه إسرائيل أو احتلالها، إن تقديم الغطاء الأخلاقي والأمني والسياسي لإسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين بهذا الشكل المروع إنما هو خدمة لرؤية أمريكية اصيلة ترى في القضية الفلسطينية قضية يمكن احتمالها والتعايش معها شريطة حصر الصراع وعدم اتساعه وهذا يتم من خلال بلطجة حقيقية مارسها بلينكن ووزير الدفاع اوستن بطريقة فظة وعلنية.
ولهذا، فإن الهدف السادس من هذه الزيارات هو تسويق دعم أمريكي لوجستي للسلطة الوطنية الفلسطينية بديلاً عن إقامة الدولة أو العمل من أجلها، وهو هدف قد يترافق مع محاولة حثيثة أمريكية للإطاحة بحكومة نتنياهو المتطرفة التي تحرج الإدارة الأمريكية طيلة الوقت، هذا الهدف لم يعد خافياً على أحد بعد محاولة نتنياهو وحكومته أن يستبقوا النصائح الأمريكية بخطوات تفرغها من مضمونها أو ينتقوا من نصائح البيت الأبيض ما يريدون وكيف يريدون، بحيث تبدو إسرائيل وكأنها تقرر لنفسها دون سيطرة أمريكية.
أخيراً، أهداف بلينكن من زياراته المكوكية لا تختلف كثيراً عن زيارات من سبقه من وزراء الخارجية الأمريكية السابقين وهي أهداف ليس فيها تسوية حقيقية تقوم على أساس من العدل والكرامة والأمن، بل هي ترتيبات أمنية سياسية يكون فيها لإسرائيل الأفضلية في كل شيء، فيما يكون فيها الفلسطيني مكشوف الظهر مسلوب القرار، ومازلنا نتذكر أسماء شهيرة وكثيرة منذ كيسنجر الذي ورط المنطقة وفككها وحتى بلينكن الذي لا يملك بريق الأول ولا دهاءه.
{ رئيس مركز الدراسات
المستقبلية - جامعة القدس
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك