لا ينشأ دور بالمصادفة ولا تسقط قيمة بالتقادم. من لم يطل على التاريخ بوقائعه وحقائقه قد لا يلم بالأسباب العميقة الكامنة وراء ملاحقة جنوب إفريقيا بالذات من دون طلب، أو تكليف من أحد، لجرائم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة.
إرث التاريخ ماثل في مشاهد محكمة العدل الدولية.
لأزمان طويلة ارتبطت قضيتا جنوب إفريقيا وفلسطين كأنهما توأمان سياسيان، ما إن تطرح إحداهما تُستدعَ الأخرى.
ما زال إرث الفصل العنصري «الأبارتهايد» ماثلا في ذاكرة أجيالها الجديدة ويحكم سياساتها.
رمزية جنوب إفريقيا أضفت على دورها في محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين بتهمة الإبادة الجماعية قيمة مضافة ملهمة باعتبارها الممثل التاريخي في النظر الإنساني المعاصر لانتفاضة الرجل الأسود ضد إرث العبودية والتمييز العنصري.
اكتسبت صدقية حديثها باسم كل الضحايا من تاريخها نفسه.
عندما تحررت مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد أن رحل جمال عبدالناصر بسنوات طويلة، لم تنس دوره في الوصول إلى هذا اليوم، ولا تنكرت القارة الإفريقية كلها لإرثه التحرري فيما كان التنكر هنا فادحا.
لا يحق لأحد أن ينسى الأدوار التي لعبتها مصر في نصرة قضية جنوب إفريقيا، حيث احتضنت ودعمت، موّلت وسلّحت واحدة من أعدل القضايا الإنسانية، كما لم تفعل دولة أخرى.
عندما تتصدر، اليوم، جنوب إفريقيا مشاهد محكمة العدل الدولية للانتصاف للقضية الفلسطينية من مجرمي الحرب فإنها تبدو أكثر إخلاصا لإرث التاريخ المشترك من العرب أنفسهم.
في لحظة الصعود الكبير تأكدت قيمة الوفاء للتاريخ ولأدوار قادة التحرير في القارة الإفريقية.
فور إطلاق سراحه من سجنه الطويل، الذي امتد سبعة وعشرين عاما، زار مانديلا دولا إفريقية في مقدمتها مصر. كانت مصر قد تغيرت ولم تعد تتبنى السياسات التي ألهمت حركة التحرير الإفريقية كلها، لكنها لم تغادر مخيلته.
في زيارته القاهرية، طلب من بروتوكول رئاسة الجمهورية أن يكون بجواره في العشاء على شرفه صديقه القديم محمد فايق، رجل عبدالناصر في إفريقيا، الذي تعاون معه لإزاحة الحكم العنصري قبل أن يدخل سجنه الطويل.
بحسب رواية محمد فايق ــ كما استمعت إليها ــ فإنه ذهب إلى منشية البكري حيث بيت عبد الناصر وبصحبته المناضل الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا للقاء الرئيس المصري.
انتظرا سويا أن ينتهي اجتماع بين عبدالناصر وتيتو، غير أن الاجتماع طال عما كان مقررا، وجد مانديلا نفسه مضطرا للمغادرة حتى يلحق بطائرته على أن يعود مرة أخرى. وهو لقاء لم يحدث أبدا.
فيما بعد قال مانديلا، إنه في سجنه الطويل كان يحاول أن «يشب» على قدميه حتى يرى عبدالناصر في القاهرة. كانت تلك إشارة تخيلية لحجم الرهان الإفريقي على الدور، الذي كانت تلعبه مصر في ستينيات القرن الماضي.
ولدا في عام واحد (1918)، عبدالناصر في أوله (15 يناير)، ومانديلا في منتصفه (18 يوليو).
رحل عبدالناصر مبكرا في سبتمبر 1970، وأطال الله عمر مانديلا حتى ديسمبر 2013.
عندما جاء للقاهرة، زار ضريح عبد الناصر، ووصفه بأنه «زعيم زعماء إفريقيا».
رغم استقباله الرسمي في القاهرة عندما زارها بعد تحريره، فإن نظام الحكم وقتها لم يدرك القيمة التي اكتسبها في الضمير الإنساني المعاصر، ولا ضرورات بناء علاقة خاصة مع جنوب إفريقيا الحرة، أو التوقف عن التنكر للقارة الإفريقية وقضاياها، الذي دفعت مصر ثمنه مروعا من أمنها المائي وحضورها الإقليمي معا.
بعد سنوات من مغادرته الاختيارية لمقعده الرئاسي، أشرف على ملف بلاده لتنظيم كأس العالم لكرة القدم.
كان أسوأ ما حدث في أروقة الحكم، حيث كانت مصر قد رشحت نفسها لتنظيم ذات البطولة.
في إشارة لها مغزاها، قال مانديلا، «لو كان عبد الناصر موجودا ما ترددت دولة إفريقية واحدة في دعم الملف المصري».
بصياغة فايق في كتابه المرجعي «عبد الناصر والثورة الإفريقية»: «إذا كنا نسلم بأن الزعماء الذين قادوا ثورة إفريقيا هم جمال عبدالناصر وكينياتا، ونكروما، وسيكوتوري، وبن بيللا ولومومبا وفيلكس مومي، وكاوندا وجوشوا نكومو، و جوليوس نيريري، وإميل كابرال ومحمد حربي وغيرهم، فإننا نستطيع بكل الاطمئنان أن نقول، إن جمال عبدالناصر قد لعب الدور الأخطر والأعظم بشهادة التاريخ وشهادة هؤلاء أنفسهم».
لن نكون مبالغين إذا قلنا، إن ثورة يوليو المصرية قد أحدثت من التغيير وتركت من التأثير في إفريقيا ما لا يقل بحال من الأحوال عن ذلك التغيير والتأثير الذي أحدثته وتركته الثورة الفرنسية في أوروبا.
فإذا كانت الثورة الفرنسية قد زرعت مبادئ الحرية والإخاء والمساواة عميقة بين شعوب أوروبا وقضت على الإقطاع وامتيازات النبلاء والألقاب، فإن الثورة المصرية هي التي أعطت الشعوب الإفريقية القدرة على استخلاص حقوقها وفقا لهذه المبادئ والمعاني العظيمة، والتي كان تطبيقها يقف دائما خارج حدود المستعمرات، حيث كان يصطدم هذا التطبيق بمصالح المستعمرين الأوروبيين».
قد تبدو مثل هذه الشهادة تحليقا في الإنشاء السياسي، لكنها في الحقيقة تعكس بدرجة عالية من الدقة الدور الذي لعبته مصر، ولا يزال ماثلا في ذاكرة القارة.
بتعبير حسنين هيكل: «لا تراهن على التاريخ وحده أيا كان بريقه، فالمصالح تسبقه في العلاقات بين الدول».. «قد تساعد العلاقات القديمة في التمهيد لتبادل لغة المصالح بشيء من الود، لكن لا تنس أنها مجرد تمهيد قبل الدخول في صلب المصالح المتبادلة».
من أسوأ ما جرى بعد عبدالناصر أن ما استقر عميقا في القارة السمراء أهدر فادحا في السياسات.
رغم كل الانقلابات الاستراتيجية على مشروع عبد الناصر وضراوة الحملة عليه فإن المعاني الكبرى لا تسقط بالتقادم.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك