دراسة مخبرية نُشرت في مجلة أمريكية علمية مرموقة، ونظراً إلى أهميتها وعلاقتها وارتباطها المباشر بواقعنا اليومي البيئي والصحي فقد تناقلتها معظم وسائل الإعلام حول العالم، فهي دراسة تسبب القلق لكل إنسان أينما يعيش على كوكبنا لانعكاساتها البيئية الخطيرة، ومردوداتها المهددة لصحة كل إنسان يعيش على سطح الأرض، وتتلخص نتائج الدراسة الميدانية في الكشف عن مئات الآلاف من المخلفات البلاستيكية المجهرية في مياه الشرب المعدنية التي يشربها الناس.
ولكن كيف لهذه المخلفات البلاستيكية التي نتخلص منها أن تصل إلى مياه الشرب النقية والصافية العذبة الزلال الموجودة في عبوات محكمة الإغلاق فتلوثها؟
وفي الحقيقة فإن هذه ليست الدراسة الأولى التي توثِّق وجود المخلفات البلاستيكية في منتجاتنا الاستهلاكية اليومية، فهناك دراسات اكتشفتْ وجود البلاستيك في الجهاز التنفسي العلوي والسفلي للإنسان، ودراسات أخرى أكدت وجودها في خلايا المخ وأنسجة القلب.
وفي الحقيقة وحتى قبيل عدة سنوات لم أستوعب شخصياً كيفية انتقال المخلفات البلاستيكية الكبيرة الحجم التي نتخلص منها إلى المنتجات التي نستخدمها بشكلٍ يومي، سواء المشروبات أو المأكولات، أو دخولها في الخلايا المتناهية الصغر والتي لا ترى بالعين المجردة، ولكن التجربة الشخصية التي خضتُها عندما كنتُ أسبح في البحر علمتني عملياً، وقدَّمت لي درساً واقعياً بسيطاً في كيفية وصول وانتقال هذه الملوثات البلاستيكية إلى كل هذه المنتجات.
فأثناء السباحة وعندما كنتُ أغوص لمشاهدة الكائنات البحرية التي تسبح في عمود الماء وتعيش في قاع البحر وفي داخل التربة القاعية، لاحظتُ عن بُعد شيئاً أبيض اللون جاثماً فوق سطح التربة، ويُطل برأسه إلى الأعلى، فأخذني الفضول وحبُ الاستطلاع للاقتراب من هذا الشيء الغريب بحذر وتأنٍ شديدين، فربما يكون كائناً بحرياً ساماً ومؤذياً يسبب لي جرحاً عميقاً وحاداً.
وعندما اقتربتُ أكثر من هذا الجسم الأبيض المجهول، وبدأتْ ملامحه تظهر شيئاً فشيئاً، وتتضح الصورة أكثر، وتنكشف هويته بدقة أشد، وإذا بهذا الشيء الغريب عبارة عن مخلفات بلاستيكية على شكل صحنٍ بلاستيكي كبير أبيض اللون تم التخلص منه بأيدي بشرية، فشوه منظر البحر الفطري الجميل، ولوث التربة القاعية. فقررتُ عندئذٍ من باب الحفاظ على نظافة البيئة البحرية وحمايتها من الأجسام والملوثات الغريبة الضارة للبشر والحياة الفطرية البحرية، إزالة هذا الصحن البلاستيكي من قاع البحر، وعندما حاولتُ الإمساك بهذا الصحن وإذا به، ولا أقول إنه تكسر إلى قطعٍ وأجزاء أصغر، وإنما تهشم كلياً وتفتت بين يدي ولم أستطع الإمساك به، فتحول إلى مسحوقٍ أبيض كلياً، وإلى جسيمات متناهية الصغر قد لا يُرى بعضها بالعينة المجردة. فنزلتْ هذه الجسيمات البلاستيكية وانتشرت في عمود الماء أولاً ثم ترسبت فوق سطح التربة القاعية، وستصبح هذه الجسيمات البلاستيكية مع الوقت جزءاً من السلسلة الغذائية في البيئة البحرية التي تنتهي بالإنسان.
فهذه التجربة الميدانية البحرية هي إحدى الطرق التي من خلالها تتهشم وتتفتت المخلفات البلاستيكية الكبيرة إلى قطعٍ وأجزاء أصغر ثم إلى جسيمات دقيقة قد لا يمكن مشاهدتها بالعين المجردة، فتنتقل مع الزمن إلى منتجاتنا الغذائية. وهناك طرق كثيرة مماثلة تحدث في أوساط بيئية أخرى كالتربة والهواء، وتبين تَنَقُل وحركة المخلفات البلاستيكية من هذه الأوساط البيئية إلى الجسم البشري، وهذه المخلفات والجسيمات البلاستيكية الصغيرة يُطلق عليها الآن بالميكروبلاستيك، وإذا كانت أصغر حجماً فتُسمى النَانوبلاستيك، وهذه الجسيمات المجهرية هي التي تُشكل تهديداً مزمناً وحقيقياً للحياة الفطرية وللإنسان.
ولذلك يجب ألا نستغرب الآن من النتائج التي كشفتها الدراسة الحالية حول وجود عشرات الآلاف من الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في عبوات مياه الشرب. وهذه الدراسة منشورة في مجلة اسمها «وقائع الأكاديمية الأمريكية القومية للعلوم» (Proceedings of the National Academy of Sciences) تحت عنوان: «التصوير الكيميائي السريع الأحادي للجسيمات النانوبلاستيكية بوساطة مجهر SRS» في 4 يناير 2024. وقد تراوح تركيز الجسيمات البلاستيكية المجهرية بين 110 آلاف إلى 400 ألف، وبمعدل 240 ألف جسيم بلاستيكي دقيق في اللتر الواحد من مياه الشرب المعدنية في العبوات البلاستيكية، علماً بأن 90% من هذه الجسيمات البلاستيكية كانت بحجم النانو، أي أقل من مايكرومتر واحد، والنانو يساوي جزءا من البليون من المتر، كما أن 10% من الجسيمات كانت بحجم المايكرو وهو جزء من المليون من المتر، ولتوضيح الحجم أكثر فإن شَعْر الإنسان حجمه قرابة 80 مايكرومتراً.
وهذه الدراسة أكدت وكررت نتائج بعض الدراسات السابقة التي قامت بتحليل مياه الشرب المعبأة وكشفت عن وجود مخلفات بلاستيكية دقيقة فيها. ومن هذه الدراسة المنشورة في 11 سبتمبر 2018 في مجلة «الكيمياء التحليلية»، تحت عنوان: «التلوث بالمواد المتبلمرة الصناعية في مياه الشرب»، حيث تم تحليل 11 نوعاً من عبوات مياه الشرب المختلفة التي تباع في الأسواق، وعددها الإجمالي 259 تم أخذها من 19 موقعاً في تسع دول لمعرفة تركيز ونوعية المخلفات البلاستيكية في المياه. وقد خلصت النتائج إلى أن 93% من عينات مياه الشرب في العبوات البلاستيكية كانت تحتوي على الجسيمات البلاستيكية الدقيقة، حيث تراوح العدد من صفر إلى أكثر من 10 آلاف، وبمعدل 325 جسيماً بلاستيكياً في اللتر من مياه الشرب. كما كشفت الدراسة أن أكثر الأنواع البلاستيكية كانت البولي بروبلين المستخدم في صناعة غطاء العبوات البلاستيكية، إضافة إلى أن المصدر الثاني هو المرشحات التي تستخدم في تحلية وتنقية المياه. وهناك أيضاً الدراسة المنشورة في 24 فبراير 2022 في المجلة الدولية لأبحاث البيئة والصحة العامة (International Journal of Environmental Research and Public Health) تحت عنوان: «وجود الميكروبلاستيك في مياه الصنبور والمياه المعدنية».
فهذه الملايين من المخلفات البلاستيكية الصغيرة والمجهرية الموجودة في الأوساط البيئية وفي معظم المنتجات الاستهلاكية التي نستخدمها يومياً سواء كانت مشروبات أو مواد غذائية، سيكون مصيرها في نهاية اليوم الانتقال والدخول إلى جسم الإنسان، سواء عن طريق الفم، أو الأنف، أو الجلد، وكلما صغر حجم هذه المخلفات فإن قدرتها على تخطي الحواجز والموانع الحيوية في جسم الإنسان سترتفع وتزيد وتنجح في تخطى حاجز خلايا وأنسجة الجسم والتراكم فيها، ثم التأثير على وظيفتها ودورها في التفاعلات الحيوية في الجسم، والعلم مازال في مهده وفي الخطوات الأولى بالنسبة إلى التعرف على نوعية وحجم هذه التأثيرات والأمراض التي ستنزل على الإنسان بسبب هذه الجسيمات البلاستيكية المجهرية.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك