تحتل الحوكمة مركز العصب في برامج الإصلاح الاقتصادي التي تنفذها الحكومات الخليجية في الوقت الراهن، انطلاقا من رؤى اقتصادية حكيمة تهدف إلى نقل اقتصادات البلدان الخليجية إلى مرحلة أكثر عمقا وتنوعا واستدامة.
ومثلما ترتبط الحوكمة على مستوى الاقتصاد الكلي برفع إنتاجية الاقتصاد وتحسين كفاءة التشغيل والاستثمار الأمثل للموارد المتاحة، فإنها ترتبط على مستوى الاقتصاد الجزئي بتطبيق جملة من المعايير الأخلاقية والمهنية تتعلق بصفة أساسية بالعلاقة بين الشركة وأصحابها؛ أي مجموعة القواعد والحوافز التي تراقب وتوجه الإدارة إلى تعظيم الربحية وقيمة الشركات في الأجل الطويل بالنسبة إلى المساهمين. وفي كلا المستويين فإن الحوكمة معنية بتحسين الأداء الاقتصادي ومن ثم المساهمة بشكل فاعل في نجاح جهود الإصلاح الاقتصادي الخليجية الراهنة.
ومنذ عام 1997، ومع انفجار الأزمة المالية الآسيوية، أخذ العالم ينظر نظرة جديدة إلى الحوكمة والأزمة المالية المشار إليها، قد يمكن وصفها بأنها كانت أزمة ثقة في المؤسسات والتشريعات التي تنظم نشاط الأعمال والعلاقات فيما بين منشآت الأعمال والحكومة. وقد كانت المشاكل العديدة التي برزت إلى المقدمة في أثناء الأزمة تتضمن عمليات ومعاملات الموظفين الداخليين والأقارب والأصدقاء بين منشآت الأعمال والحكومة، وحصول الشركات على مبالغ هائلة من الديون قصيرة الأجل في نفس الوقت الذي حرصت فيه على عدم معرفة المساهمين بهذه الأمور وإخفاء هذه الديون من خلال طرق ونظم محاسبية «مبتكرة»، وما إلى ذلك. كما أن الأحداث خلال السنوات الماضية ابتداء بفضيحة شركة إنرون Enron وما تلا ذلك من سلسلة اكتشافات تلاعب الشركات في قوائمها المالية من بينها تلك المتعلقة بالقطب البارز في وول ستريت برنادر مادوف أظهرت بوضوح أهمية حوكمة الشركات حتى في الدول التي كان من المعتاد اعتبارها أسواقا مالية «قريبة من الكمال». وبرزت أهمية الحكومة مجددا مع ارتباط جانب من أسباب الأزمة العالمية عام 2008 بالتلاعب في بنود المشتقات المالية نتيجة لضعف الرقابة، وكذلك التلاعب في إظهار الأرباح المحققة من المتاجرة في الاستثمارات للحصول على مكافآت أعلى.
إن للحوكمة الجيدة أهمية بالغة في تحقيق النمو، حيث تشير دراسة قام بها البنك الدولي إلى أنّه لو كانت نوعية الإدارة في منطقة الشرق الأوسط تضاهي النوعية المتوسطة التي تتّسم بها الإدارة في القطاع العام في مجموعة من بلدان جنوب شرق آسيا الناجحة لكان معدّل نموّها أعلى بحوالي نقطة مئوية واحدة سنوياً.
وتظهر الدراسات الهادفة إلى تقييم مناخ الاستثمار في منطقة الشرق الأوسط كيف يمكن للحوكمة الضعيفة أن تعطّل النمو القائم على القطاع الخاص على ثلاثة مستويات؛ الأول في حال كون القواعد التي تنظّم القطاع الخاص مطبّقة ولكن غير واضحة أو لا يمكن توقّعها في أكثر الأحيان. والثاني أن الأنظمة والقوانين مطبّقة حالياً ولكن كثيرا ما تفرض عوائق أمام الدخول إلى السوق والخروج منه. وأخيرا اتسام بعض الخدمات العامة المقدمة للقطاع الخاص بالضعف وعدم التطور.
إن أنظمة الحوكمة الجيدة تشجع على المنافسة الجيدة، التي بدورها تساعد الشركات على التركيز على الكفاءة والجودة وتحدّ من التلاعب بالأسعار وتخفض خطر الاستثمارات المضللة وتعزّز قدرا أكبر من المحاسبة والشفافية في قرارات الشركات وتعزّز حوكمة أفضل للشركات.
ونحن ندرك أن تقدماً حقيقياً حصل في حوكمة الشركات والقطاع العام في دول المجلس مع بدء هذه الدول تعديل القوانين الحالية للشركات وتعزيز آليات المحاسبة وتلبية متطلبات الحوكمة في الشركات. وإدراكاً منهم لحقيقة أن الحوكمة الجيدة تشكل عاملاً أساسياً في ضمان استدامة النمو والتطور في دول المنطقة نرى أن صناع القرار بدأوا يمسكون بزمام المبادرة ويلتزمون بتطبيق معايير أكثر أماناً للحوكمة في شركاتهم. كما تم التوسع في قواعد الحوكمة في القطاع العام مثل إنشاء دواوين الرقابة المالية والإدارية وعطاءات المناقصات الحكومية وتشريعات محاربة الفساد وغيرها.
ولكي يتم تطبيق معايير الحوكمة بشكل أفضل يعزز من نجاح جهود الإصلاحات الاقتصادية فإن المطلوب مواصلة تطوير بيئة تشريعية ورقابية متكاملة خاصة بالحوكمة في القطاع العام.. أيضا من المهم بناء قدرات مؤسساتية ورقابة قوية على الآليات المعتمدة للتأكد من سلامة التطبيق على أرض الواقع. وتقوية البنية التحتية لحوكمة الشركات عبر تطوير القوانين وتأسيس نيابات قضائية مختصة للبت في القضايا المالية.
رئيس جمعية مصارف البحرين
رئيس اتحاد المصارف العربية سابقا
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك