بعد مرور مائة يوم على العدوان الإسرائيلي على غزة، واستشهاد أكثر من 23.000 ألف مدني فلسطيني، وإصابة ما يقرب من 60 ألف شخص، وتشريد 1.9 مليون آخرين، وتوسع نطاق الصراع ليصل إلى البحر الأحمر، والعراق، ولبنان؛ زار وزير الخارجية الأمريكية أنطوني بلينكن، كلا من تركيا، والأردن، وقطر، والإمارات، والسعودية، وإسرائيل، والبحرين، ومصر، في زيارة هي الرابعة له للمنطقة منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر 2023.
وبحسب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، فإن الرسائل الرئيسية التي أرد إيصالها، تتمثل في رغبة واشنطن التنسيق مع حلفاؤنا وشركاؤنا لمنع أي طرف من توسيع حدة الصراع، ومناقشة الجهود المستمرة لإطلاق سراح الرهائن، والخطة الإسرائيلية لما بعد الحرب في غزة.
وخلال زيارته، دعا تركيا، إلى استخدام نفوذها لمحاولة إبقاء الأمور تحت السيطرة، وحشد دعمها لخطط حكم غزة ما بعد الحرب. وفي الأردن، حذر من التداعيات الكارثية لاستمرار العدوان على غزة، فيما أخبره العاهل الأردني، الملك عبد الله، أنه من مسؤولية بلاده الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار في غزة. وفي قطر، أشار إلى حق الفلسطينيين في أن يكونوا قادرين على العودة إلى ديارهم بمجرد أن تسمح الظروف بذلك، وأنه يجب عدم الضغط عليهم للرحيل -وبالنظر إلى الإدانة التي أصدرها ضد روسيا بشأن ما يصل إلى 1.6 مليون أوكراني، ذكر أنهم تم ترحيلهم قسرًا، أكد أن هذا الأمر يمثل انتهاكًا خطيرًا لاتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب- فيما أبلغه رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، أن دول الخليج لا تنظر أبداً إلى العمل العسكري كحل، وأن إخفاق الولايات المتحدة في تجنب التصعيد سيبقينا في حلقة لا يبدو أنها ستنتهي أبدا.
وفي زيارته لكل من الإمارات، والسعودية، والبحرين، ومصر أعاد تصريحاته السابقة عن رفض واشنطن التام للتهجير القسري للفلسطينيين، وضرورة عودة سكان غزة إلى ديارهم، متجاهلا أن ما يعلنه سبق أن أعلنه وكرره. وفي محاولة لإثبات صدق وجدية النوايا الأمريكية، أعلن إرسال بعثة أممية إلى شمال غزة، لتقييم الأوضاع بشأن عودة النازحين، وهي التصريحات التي تتناقض مع استمرار واشنطن في دعم إسرائيل ماليًا وسياسيًا وعسكريًا.
وبشكل لا لبس ولا غموض فيه، أعلن في إسرائيل موقف واشنطن من الحرب، حيث أكد تعهد بلاده بدعم حقها في منع تكرار الهجمات التي وقعت يوم 7 أكتوبر، مضيفا إن قيام دولة جنوب إفريقيا بتقديم شكوى ضدها لدى محكمة العدل الدولية لاتهامها بممارسة حرب إبادة ضد الفلسطينيين، غير صحيحة، ولا أساس لها، معلنا أن بلاده ضد إيقاف الحرب في غزة.. وهي التصريحات التي تلبي في مجملها رغبة إسرائيل، وتظهر أمريكا وكأنها طرف حقيقي في الحرب.
وفيما يبدو أنه انفصال لـ«بلينكن» عن الحقائق على الأرض، حّول مسؤولية وقف التصعيد بعيدًا عن إسرائيل، من خلال الزعم بأنها لا تريد تصعيدًا أوسع في المنطقة، رغم أن الضربات الإسرائيلية ضد لبنان هي الأسباب المباشرة في إشعال التوتّرات. وبحسب جيسون بيرك، في صحيفة الجارديان، فإن هناك حالة أخرى من حالات الانفصال عن الواقع، تتمثل في مواصلته الحديث عن تنامي مصلحة واشنطن، في زيادة عدد الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وإن كان ذلك فقط من خلال مسار عملي إلى دولة فلسطينية. ومن خلال التأكيد على أن مثل هذه التحركات يمكن أن تكون مصاحبة لتغييرات محورية، فإن مدى ابتعاده عن الآراء الإقليمية حول إسرائيل، والتضامن مع محنة الفلسطينيين، يفسر إلى حد ما كيف أنه وبقية إدارة بايدن، قد أساءوا التعامل مع هذه الأزمة الحالية.
وفي تعليقاته حول الوضع الإنساني المتردي في غزة، فإن آخر بيان للبيت الأبيض، أكد دعم الولايات المتحدة لموقف إسرائيل؛ من أجل منع الهجمات الإرهابية، الأمر الذي يقوض إصرار بلينكن، على أنه يضغط على إسرائيل، بشأن قصفها للمدنيين. وبشكل ملحوظ، فشل أيضا في إدانة الجوقة المتزايدة داخل السياسة الإسرائيلية، ومنها على سبيل المثال إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي المتطرف، الذي يدعو إلى التهجير القسري للفلسطينيين من غزة، وبناء مزيد من المستوطنات غير القانونية في الضفة وغزة. وتأكيد على ذلك، اعترف وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون، بأنه يشعر بالقلق من عدم إمكانية إنكار الأدلة على ما اقترفته إسرائيل من جرائم حرب في غزة، لا سيما عند النظر لوقاحة تصريحات بلينكن في قوله إنه: تم قتل عدد أكبر من اللازم الفلسطينيين في غزّة، وهذا يعني صراحَة إنه لا مشكلة في قتل الفلسطينيين، إنما الخلاف هو حول حجم الكتلة البشرية التي تريد واشنطن من الاحتلال الصهيوني قتلها.
ووفقا للعديد من المحللين، فإن الزيارة في مجملها تهدف إلى حماية إسرائيل، وعدم توسيع الحرب على الجبهات الأخرى، حيث لم يقدم للفلسطينيين والجانب العربي سوى وعود وكلام دون أي ضمانات. وكما أوضح أنتوني زورشر، من شبكة بي بي سي، فإن الرسالة الوحيدة التي ينبغي قراءتها، هي ضمان عدم امتداد الحرب بين إسرائيل، وغزة إلى صراع إقليمي. وعوضًا عن حل الصراع من جذوره، والعمل على وقف فوري للعدوان، سعى لضمان مساعدة الدول العربية في عدم اتساع دائرة الحرب.
وفي حين ذكرت فيليسيا شوارتز، في صحيفة فايننشال تايمز، أن وزير الخارجية أراد من لقاءاته دعوة القادة الإقليميين لاحتواء الصراع؛ فإن هذا النهج ينفي حقيقة ما قامت به إسرائيل من توسيع الحرب من خلال ضرب حزب الله في لبنان، وكيف أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي يمكنها الضغط عليها لوقف التصعيد، ومع ذلك، فإن سلوك إسرائيل أثناء الحرب يشير إلى أن الأمر قد لا يكون كذلك، نتيجة لرفض واشنطن إدانة الانتهاكات ضد الفلسطينيين. ومع استمرار القصف العنيف على غزة، وسقوط آلاف الضحايا المدنيين -رغم مناشدات بلينكن، وبايدن، وآخرين لتقليص حدة القصف- أشار دانييل ليفي، من مركز أبحاث الشرق الأوسط، إلى أن نتنياهو، شعر أنه وضع الإدارة الأمريكية حيث يريدها، وأنها لم تعد تنظر إلى أضرار الحرب في القطاع، وخطورة توسيع نطاق الحرب.
وعلى الرغم من أن بلينكن، أعلن أن زيارته، قد أسفرت عن اتفاق مع تركيا، والسعودية، والأردن، وقطر، والإمارات، للعمل معًا لتنسيق كافة الجهود لمساعدة غزة، وتأكيد السعي نحو الاستقرار والتعاون لصالح السلام والأمن في المنطقة ككل؛ فإنه لا يمكن تجاهل كيف فقدت واشنطن، السيطرة والتأثير على الوضع. وبينما أصر على أن لديه رؤية، لكيفية إنهاء الصراع عبر اعتماد نهج إقليمي يوفر الأمن الدائم لإسرائيل، وضمان تأسيس دولة فلسطينية؛ فإن الحقائق على الأرض، واستمرار تعنت إسرائيل تجاه السلام يجعل هذه الرؤية مستحيلة حاليًا.
علاوة على ذلك، يجب أيضًا الإشارة إلى أن تصريحاته خلال جولته جاءت سلبية، بالمقارنة مع تصريحات نظيره الأوروبي جوزيف بوريل الذي زار المنطقة مؤخرًا بنية واضحة لتهدئة ومنع تصعيد التوترات الإقليمية، على عكس نظيره الأمريكي أيد بوريل، الذي أشار إلى الحاجة إلى وقف إطلاق النار بشكل إنساني وعاجل، وانتقد إسرائيل لانتهاكها القانون الدولي. ومع وجود لبنان في خضم التهديدات العسكرية الأخيرة زار بيروت، لإجراء محادثات مع رئيس قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والحكومة والجيش اللبنانيين، وكذلك رئيس كتلة حزب الله البرلمانية.
وعلى النقيض من وزير الخارجية الأمريكي، أظهر هذا النهج الدبلوماسي من جانب بوريل، استعدادًا للتعامل مع جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة لصالح تهدئة التوترات؛ مشيرا إلى أن القنوات الدبلوماسية يجب أن تكون مفتوحة، وأن الحرب ليست إلا الخيار الأسوأ على الإطلاق، وأنه يجب تأمين اتفاق سلام دائم بين إسرائيل وفلسطين. وبالإشارة إلى تحفظ بلينكن الغامض في انتقاد أي هجوم إسرائيلي مستقبلي على لبنان؛ لم يكن لدى بوريل أي مخاوف من تحذيرها صراحة من أنه لن ينتصر أحد من اندلاع صراع إقليمي بين لبنان وإسرائيل، فيما خلص أيضا إلى أن السبيل الوحيد لمعالجة الكارثة الإنسانية في غزة هو البحث عن حل سياسي للقضية الفلسطينية.
وبحسب العديد من المراقبين، فإن بلينكن، حمل في زيارته ملفات سياسية أكثر من أي زيارة سابقة للمنطقة، ففي حين أن الرؤية الأمريكية تسعى لتخفيض عمليات قتل المدنيين في قطاع غزة، فإنها تدعو للذهاب إلى المرحلة الثالثة، التي تتمثل بعمليات مركزة، مع إطالة أمد الحرب، لافتا إلى أن الدخول في هذه المرحلة يعني مزيدا من الاستهدافات وعمليات الاغتيال. وتأكيدا على هذا التحليل، قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، لصحيفة وول ستريت جورنال، إن القوات الإسرائيلية ستتحوّل مما سماه مرحلة المناورة المكثفة في الحرب إلى أنواع مختلفة من العمليات الخاصة، محذرا من أن الفصل التالي من الحرب سيستمر مدة أطول.
فيما رأى آخرون، أن الهدف من الزيارة كان تحسين صورة إدارة بايدن أمام ناخبيها قبيل الانتخابات الرئاسية المقررة هذا العام، ومحاولة إخراج مزيد من المعتقلين الإسرائيليين، علاوة على أنها تأتي لحماية إسرائيل، ومحاولة إخراجها من ورطتها، وأزمتها الداخلية والخارجية، وضبط شكل الحرب، وجعلها حربا منسية لا يلتفت أحد إليها.
وكما أوضح توم بيتمان، في شبكة بي بي سي، فإن الزيارة نفسها قدمت القليل من الحلول لإدارة التوترات المتصاعدة. وبصرف النظر عن إعرابه عن الأسف لوقوع الضحايا المدنيين، فقد تعزز دعم الولايات المتحدة للسياسات الأمنية الإسرائيلية، مع عدم محاسبتها على ما تقوم به من انتهاكات. وخلال جولاته لم يصدر بلينكن، أي بيان، أو يتخذ أي إجراء يعكس حقائق الوضع، وبالتالي، فإن هذه الزيارة، مثل الزيارات السابقة، فشلت في تحقيق أي انفراج دبلوماسي. وأوضح أليستير بونكال، من شبكة سكاي نيوز، أنه في حين أن وزير الخارجية، يدرك خطورة الوضع في غزة؛ فإنه لم يقدم خطوات ملموسة، لخفض التصعيد، أو المساءلة عن العنف. وعليه، أوضح أن الأفعال وليس الأقوال، هي التي يشتد إليها الحاجة في الوقت الراهن.
ووفقا لـ«أوليفر هولمز»، في صحيفة الجارديان، فإن قدرته على إبعاد المنطقة عن المزيد من العنف، تكاد تكون منعدمة. وعلى الرغم من الأهداف المحددة للزيارة، خلصت شبكة فرانس 24، إلى أنه لا توجد مؤشرات، على أنه أحرز تقدما حتى في وقف الحرب لأسباب إنسانية، ناهيك عن تبني محادثات سلام. بينما اقترح هولمز، أنها كانت محاولة لاحتواء الصراع، كجزء من رغبة واشنطن في ضمان أن القضية الفلسطينية، لن تطغى على الأهداف الأوسع لها في الشؤون الخارجية، وعلى الأخص حرب أوكرانيا.
وبالاتفاق مع هذه الرؤية، أعلنت صحيفة الجارديان، أن الجهود الدبلوماسية الأمريكية الأخيرة في الشرق الأوسط، تبدو فاترة، وغير كافية بالشكل المطلوب، منتقدة الدعوات الغامضة للالتزام بالهدوء، دون بذل أي جهد في سبيل ذلك، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة، لا تعير أدنى اهتمام، بما قد تؤول إليه الأمور. وكما أشارت سانام فاكيل، من المعهد الملكي للشؤون الدولية، فإن اللحظة الراهنة، تتسم بالحساسية وتتطلب تخطيطًا فوريا حقيقيا.
وبسبب انحيازها الصارخ لعدوان إسرائيل على غزة، ورفضها الانضمام إلى النداءات الدولية المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار؛ تضررت الثقة العالمية بالولايات المتحدة وفقدت مصداقيتها في المنطقة. وأوضحت شبكة إن بي سي نيوز، كيف تم تحذير بلينكن قبل زيارته الأخيرة للشرق الأوسط من تنامي الرأي المناهض للولايات المتحدة، وتزايد إحباطات دول المنطقة من الإخفاقات المستمرة لها.
على العموم، فإن مناورات بلينكن، الدبلوماسية الأخيرة في الشرق الأوسط كانت بمثابة مراهنة أمريكية يائسة، حيث أعرب المعلقون عن خيبة أملهم من ضياع الفرصة التي سنحتها الزيارة، أمام واشنطن، لتعزيز الحوار الإقليمي، ومساءلة الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. وعلى الرغم من أن وزير الخارجية قد رفض عمليات التهجير القسري للفلسطينيين؛ واستهداف المدنيين، إلا أن هناك إجماعا على أنه بدون أفعال حقيقية، تبرهن مدى قوة النفوذ الأمريكي على أرض الواقع، فإن حكومة نتنياهو، لن تغير سياساتها، خاصة أن هدف الزيارة الأساسي كان منع توسع الصراع، دون تحميل إسرائيل المسؤولية عن ذلك.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك