بدت مرافعة الفريق القانوني الجنوب إفريقي مبهرة وهم يقدمون الأدلة والبراهين على حرب الإبادة التي تقوم بها دولة الاحتلال بحق شعبنا في غزة. وفيما بانَ واضحاً ضعف الرد الإسرائيلي فإن قوة المرافعة الجنوب إفريقية عكست بالطبع حسن الإعداد المسنود في الأساس على عدالة القضية. لقد وقف العالم مبهوراً أمام هذا الإعداد الجيد للقضية للدفاع عن أنبل قضية في التاريخ، وشاهدنا نحن الذين نتعرض للمذبحة كيف تم عرض ما نتعرض له بدقة ومهنية، وتحويله من مجرد ألم إلى رأي عام عالمي يحظى بتأييد كل أحرار العالم وبعض الدول الحرة في الكون المعتم، بسبب التضليل الذي تمارسه قوى الشر فيه.
فقط يمكن لمحامي جنوب إفريقي عاش سنوات طفولته تحت التمييز العنصري وذاق ويلات القمع والاضطهاد أن يعرف معنى استلاب الحرية، ومعنى القتل على أساس عرقي وديني، ووحده يمكن أن يشعر بعذابات أم فقدت أولادها وآلام طفل ينتظر أن تخرج والدته من تحت الركام، أو زوج ينتظر أطفاله أن يعودوا من المخبز من دون أن يعرف أن المخبز تم تدميره على كل من صادف وتواجد فيه. فقط محام جنوب إفريقي كان طفلاً حين رأى جيش دولة الفصل العنصري تهدم اكواخ المزارعين وتدمر محصولهم ان يفهم كيف يتم قتل الشجر والحجر مثلما يتم قتل الإنسان.
وحده هذا المحامي الذي كان شاباً يافعاً حين منعه الشرطي أن يركب الحافلة لأنها مخصصة للبيض، أو ركَله حارس المطعم خارج ساحاته لأنه لا يحق للأسود أن يأكل ويتنفس في نفس المكان الذي يأكل ويتنفس فيه البيض، وحده يمكن أن يعرف كيف يمكن للشاب الفلسطيني أن يموت لأن موجّه الطائرة الزنانة الذي يلهو مع عشيقته المجندة في القاعدة العسكرية على حدود غزة يتراهنان من يقتل أكثر، أو كيف يمكن لجندي أن يهدي ابنته في عيد ميلادها تفجير بناية سكنية في غزة على رؤوس ساكنيها من دون خجل، ومن دون أن يخفي ذلك بل يقوم ببثه على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى تتباهى ابنته بين قريناتها بهدية والدها من غزة، ثم يأتي في العالم من يريد أن يُقنع هذا المحامي الشاب أن هذا الجندي بريء وكل ما يقوم به هو دفاع عن نفس، مثلما أراد البعض أن يقنعه في شبابه أن الجندي الأبيض حين ركله خارج المطعم ومنعه من ركوب الباص إنما فعل ذلك بدافع الحفاظ على نقاء الحضارة والبشرية، أو أن يقنعه أن المرأة العجوز في غزة أو تلك الجنوب إفريقية حين هدم الجندي الإسرائيلي أو الشرطي الأبيض بيتها أو كوخها عليها إنما كان ينفذ وصايا إله يحتكره وحده، ولا يرى أن هذا الإله يمكن أن يعطف على غيره من البشر فهو له وحده. لا أحد يستطيع أن يقنع هذا المحامي الجنوب إفريقي أن ثمة حقاً في احتلال أرض الغير أو في استلاب حريتهم وسرقة بلادهم.
وحدهم من عاشوا هذه التجربة يمكنهم أن يفهموا أن ما يجري في غزة ليس مجرد حرب أخرى او أنها مجرد تصعيد جديد، فهي لا تشبه شيئاً مما حدث في التاريخ لأنها تقوم على المبدأ نفسه الذي تم قتل مئات آلاف الإفريقيين بسببه، إنه التمييز بسبب العرق والقتل على أساس عنصري. إن ما قامت به العصابات الصهيونية منذ عم ظلام مشروعها على المنطقة استند على تمييز صارخ بحق شعبنا، وقتلنا على أساس وجودنا وهويتنا وعرقنا، وما تقوم به قوات الاحتلال في غزة هذه الأيام هو جريمة حرب وإبادة تهدف إلى محو الشعب الفلسطيني وقتله وتدميره. إن ما يجري في غزة هو حرب شاملة على البشر والحجر وعلى الشجر وعلى المكان وعلى التاريخ والذاكرة، كما على الحاضر والمستقبل. إن المخرج النهائي لهذه الحرب من منظور إسرائيلي هو القضاء على الشعب الفلسطيني في غزة، إما من خلال قتله أو تهجيره قسراً أو تهجيره طوعاً تحت تهديد السلاح.
بهذا فإن ما يجري هو حرب إبادة حيث يمكن بضربة واحدة مثلاً قتل أكثر من خمسمائة مواطن بريء، مثلما حدث في مذبحة جباليا أو مذبحة المستشفى المعمداني، كما يمكن قصف المسجد وقتل كل من فيه، وتدمير الكنيسة بلا خجل من الرب الذي يبتهل له المؤمنون ليحميهم، كما يمكن قتل امرأة عجوز تحمل بقجة ذكرياتها تبحث عن ملجأ مؤقت.
من عرف عمق العلاقة بين فلسطين وجنوب إفريقيا يعرف كيف يقف المحامي الجنوب إفريقي يدافع عن فلسطين قضيته كما هي قضية الفلسطينيين، ويقرأ تصريحات المسؤولين هناك وهم يقولون إنهم يعرفون ما سيتعرضون له من ضغوط من أجل معاقبتهم على خطوتهم الحرة، لكنهم ماضون في ذلك ومصممون عليه، ويشعرون بالفخر أنهم يفعلون ذلك ولن يندموا. إن هذه العلاقة التي تأسست من الخبرات المتشابهة إلى وحدة الألم ووحدة النضال ستظل هي جوهر هذه المواقف، وهي صلب ما يتم اتخاذه من خطوات لاحقة من أجل إسناد الحقوق الفلسطينية.
تذكروا العلاقة بين عرفات ومانديلا، علاقة رفاق السلاح والنضال، وهي علاقة ورّثها الزعيمان لشعبيهما وظلت وستظل. لنا أن نشعر بالفخر أننا شعب وقف دائماً حتى وهو ضعيف ومحتل مع كل القضايا العادلة في التاريخ، ولم نتردد في إسناد كل نضالات الشعوب المضطهدة في الوقت الذي كنا أكثرها اضطهاداً، لكننا آمنا دائماً أن فلسطين الحرة لن توجد قبل أن يصبح العالم حراً، لذلك فإن الوفاء من جنوب إفريقيا هو موقف أصيل لا يصدر إلا عن دولة دفعت بأجيال من شعبها فداء للحرية التي نالتها عن جدارة واستحقاق. تذكروا فرحة ياسر عرفات وقتها وابتسامته وهو يعانق رفيق الدرب مانديلا. وتذكروا أن التمثال الوحيد الموجود في البلاد هو تمثال مانديلا.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك