ما بين إعلان عدد من الدول الأوروبية الانضمام إلى تحالف «حارس الازدهار» الذي أعلنته الولايات المتحدة لحماية الملاحة البحرية في باب المندب، وانسحاب عدد من تلك الدول لاحقاً منه، تساؤلات عديدة أثيرت حول الموقف الأوروبي من ذلك التحالف وتأثير تلك التهديدات على المصالح الأوروبية؟ وحدود المساهمة الأوروبية في عمليات بحرية خارج القارة الأوروبية؟، فما إن أعلنت الولايات المتحدة في 18 ديسمبر 2023 تأسيس التحالف بعضوية عدة دول من بينها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلا أنه بعد مرور أسبوع واحد فقط أعلنت مصادر رسمية في الدول الثلاث أن أي مشاركات من قواتها لن تكون تحت القيادة الأمريكية وإنما تحت قيادتها الوطنية، ولا يعني ذلك انهيار التحالف بل تباين في وجهات النظر يجد تفسيره في ثلاثة أمور أولها: على الرغم من أن تهديدات البحار تعد خطراً مشتركاً يواجه دول العالم ومنها أوروبا، فإن المسألة ترتبط من ناحية أخرى بفكرة الاستقلالية الأوروبية فلطالما سعت فرنسا لحث الدول الأوروبية على إيجاد بديل أمني أوروبي الهوية والحد من الاعتماد على مظلة الناتو، إلا أن تلك المسألة لا تحظى بإجماع داخل الاتحاد الأوروبي ذاته، ففي الوقت الذي تضمنت التصريحات الفرنسية والإيطالية أن قواتهما لن تعمل سوى تحت قيادة بلديهما، فإن إسبانيا قالت إنها لن تعمل سوى تحت مظلة حلف الناتو، ومع إعلان الاتحاد الأوروبي في 12 يناير2024 نيته بحث إمكانية إرسال قوة بحرية أوروبية للمساعدة على حماية السفن في البحر الأحمر من هجمات الحوثيين في اليمن أعلن وزير الدفاع الإسباني أن بلاده لن تشارك في مثل تلك القوة حال إقرارها، وثانيها: أن التحالفات دائماً ما تستهدف مواجهة تهديدات، وفي حالة باب المندب، فإن التهديدات الرئيسية هي من جماعة الحوثي ودخول إيران على خط التفاعل، إلا أن السياسة الأوروبية دائماً لا تريد أن تكون في تماس مباشر مع إيران، ويؤكد ذلك أنه عندما أعلنت الولايات المتحدة تأسيس التحالف العسكري البحري لأمن الملاحة في الخليج العربي عام 2019 لم تنضم إليه الدول الأوروبية بل إن فرنسا أعلنت تأسيس البعثة الأوروبية لمراقبة الملاحة البحرية في مضيق هرمز عام 2020 بدعم 7 دول أوروبية ومقرها أبوظبي، ولكن لوحظ أنها ليست بعثة عسكرية على غرار التحالف الأمريكي وتقتصر مهمتها فقط على توعية السفن بمخاطر تهديد الملاحة البحرية في المضيق، وثالثها: أن مشاركة القوات الأمريكية ضمن تحالفات عسكرية بالخارج أمر لا يواجه صعوبات، ولكن بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي فإن هناك ضرورة لموافقة برلمانات الدول على تلك المشاركات، وداخل أروقة الاتحاد ذاته توجد تباينات في الرؤى حول تلك القضايا.
ولا يعني ما سبق أن التهديدات في مضيق باب المندب لا تمثل تحدياً للمصالح الأوروبية، فالمضيق تمر منه حوالي 40% من التجارة الدولية، منها 12% بين أوروبا وآسيا، وحال توقف أو عرقلة الملاحة عبر باب المندب ومن ثم قناة السويس سوف ترتفع أسعار السلع في الدول الأوروبية بنسبة تتراوح بين 10 و15% بسبب زيادة رسوم الشحن والتأمين بما يعنيه ذلك من أن الدول الأوروبية ستكون هي المتضرر الأكبر حال تفاقم تهديدات الملاحة البحرية في تلك المنطقة.
وواقع الأمر أنه بالرغم من القيود على إرسال القوات الأوروبية خارج نطاق القارة، فإن أوروبا لم تكن بعيدة عن كافة العمليات العسكرية البحرية منها، فخلال عملية الإرادة الجادة التي قادتها إدارة الرئيس ريجان لحماية ناقلات النفط خلال الحرب العراقية- الإيرانية لم يكن نجاح تلك العملية ممكناً سوى بالمساعدات العسكرية من الشركاء الأوروبيين، ففي ذروة التدخل الأمريكي في تلك الحرب كانت هناك 40 سفينة تتبع بلجيكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا، وقد شاركت البحرية البريطانية وحدها في حماية 1026 عملية عبور منذ بدء المشاركة في ذلك التحالف عام 1987، بل إن هناك بعض الآراء من داخل أوروبا تؤكد أنها تسهم بحوالي 40% من الأصول البحرية للعمليات البحرية الأمريكية في الشرق الأوسط، من ناحية ثانية وفي أعقاب إصدار مجلس الأمن عدة قرارات لمواجهة القرصنة قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي عام 2008 وكان من بينها القرار 1816 والذي طالب الدول والمنظمات الدولية بإرسال قوات بحرية لتلك المنطقة ضمن جهود دولية شارك الاتحاد الأوروبي بعملية أتلانتا وهي عملية عسكرية تقوم بها القوة البحرية التي تتبع الاتحاد الأوروبي، من ناحية ثالثة في مارس 2020 بدأت البعثة الأوروبية العسكرية البحرية الأوروبية «إيريني» عملها في البحر الأبيض المتوسط تطبيقاً لقرارات الأمم المتحدة بشأن حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا وهي البعثة التي أعلن مجلس الاتحاد الأوروبي تمديد عملها إلى 31 مارس 2025.
ومع أهمية ما سبق ففي تقديري أن كل العمليات العسكرية للولايات المتحدة وشركائها من الدول الأوروبية في مناطق مختلفة من العالم تعكس ثلاث إشكاليات، الأولى: مع وجود اتفاق على حجم التهديدات والمخاطر إلا أن هناك ثلاثة مسارات وهي توجهات الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، والمعضلة الكبرى تواجه الاتحاد الأوروبي، فبرغم تعدد المقترحات والخطط لتأسيس هوية أمنية موحدة لم يحالفها النجاح بل أن الحرب في أوكرانيا قد عززت حاجة تلك الدول إلى حلف الناتو كمظلة أمنية للدعم العسكري المحدود لأوكرانيا وممارسة الردع، والثانية: الاختلافات في الرؤى لا تنبع فقط من مسألة الهوية الأمنية بل الإشكاليات الأمنية الإقليمية، فأوروبا كانت تتولى تنسيق المفاوضات النووية بين إيران والدول الغربية قبل أن تتوقف نهاية عام 2022 وبالتالي لم ترغب في أن تكون في مواجهة مباشرة مع إيران، أما الإشكالية الثالثة فهي ليست في مشاركة الاتحاد الأوروبي أو الناتو من عدمه ولكن ركيزة تلك المشاركة، فالتهديدات وحدها لا تكفي من وجهة نظر المنظمتين ولكن لا بد من وجود قرارات أممية كأساس للمشاركة على غرار تلك التي صدرت لمواجهة القرصنة قبالة الصومال والقرن الإفريقي وكذلك الحالة الليبية.
ولا يعني ذلك عدم انخراط بعض الدول الأوروبية بشكل فردي في جهود تأمين الملاحة البحرية في تلك المنطقة ومنها فرنسا التي لديها عضوية في مدونة السلوك المتعلقة بقمع أعمال القرصنة والسطو المسلح التي تستهدف السفن والنشاط البحري غير الشرعي في غربي المحيط الهندي ومنطقة خليج عدن والتي تضم 21 دولة من الخليج وإفريقيا بينما فرنسا هي العضو الوحيد من خارج الإقليم.
وعلى الرغم من أن مشاركة الدول الأوروبية سواء من خلال الاتحاد كمنظمة أو دول في عمليات عسكرية بحرية خارج أراضيه يعد تطوراً مهماً بشأن دور الاتحاد الأوروبي في حفظ الأمن والسلم الدوليين إلى جانب الولايات المتحدة، فإن النظام العالمي لم يحسم بعد مسألة تشكيل التحالفات لسبب بسيط مؤداه أن المنظمة الأممية ليس لديها جيش لوضع قراراتها موضع التنفيذ.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك