تفصل آلاف الأميال بين أوغندا والكونجو وقطاع غزة، لكن هذه الأماكن مرتبطة بفلسطين بطرق قد لا تفلح التحليلات الجيوسياسية التقليدية في تفسيرها.
في 3 يناير 2024، تم الكشف عن أن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة الإسرائيلية تناقش بنشاط مقترحات لطرد ملايين الفلسطينيين إلى الدول الإفريقية، مقابل تسديد سعر ثابت.
من المفترض أن المناقشة حول طرد الملايين من سكان غزة قد دخلت الفكر السائد في إسرائيل ابتداءً من السابع من أكتوبر الماضي، ولكن حقيقة أن هذه المناقشة ظلت قائمة على مدى ثلاثة أشهر منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة تشير إلى أن المقترحات الإسرائيلية ليست نتيجة لحظة تاريخية محددة، مثلا عملية طوفان الأقصى.
إذا ألقينا نظرة سريعة على السجلات التاريخية الإسرائيلية، فإننا ندرك أنها تشير إلى حقيقة أن الطرد الجماعي للفلسطينيين - المعروف في إسرائيل باسم «الترانسفير» - كان ولا يزال يمثل استراتيجية إسرائيلية كبرى تهدف إلى حل ما يسمى «المشكلة الديموغرافية» في إسرائيل.
قبل فترة طويلة من قيام مقاتلي كتائب القسام والحركات الفلسطينية الأخرى باقتحام السياج الفاصل بين غزة المحاصرة وإسرائيل في فجر يوم 7 أكتوبر 2023، ناقش السياسيون الإسرائيليون، في الواقع في مناسبات عديدة، كيفية تقليل إجمالي عدد السكان الفلسطينيين للحفاظ على الأغلبية اليهودية الديموغرافية في فلسطين التاريخية.
ولم تقتصر الفكرة على المتطرفين الإسرائيليين فحسب، بل إنها نوقشت حتى من قبل أمثال وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أفيجدور ليبرمان عندما اقترح في عام 2014 ما سمي آنذاك «خطة تبادل السكان».
وحتى المثقفون والمؤرخون الليبراليون المفترضون أيدوا هذه الفكرة، سواء من حيث المبدأ أو من حيث الممارسة.
أعرب بيني موريس، أحد كبار المؤرخين الإسرائيليين، عن أسفه في مقابلة مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية الليبرالية في شهر يناير 2004، لأن ديفيد بن جورويون، مؤسس دولة إسرائيل وأول رئيس للوزراء في تاريخها، قد فشل في طرد جميع الفلسطينيين خلال نكبة 1948 - الحدث الكارثي للقتل والتطهير العرقي الذي أدى إلى إنشاء دولة إسرائيل على أنقاض المدن والقرى الفلسطينية.
والدليل الآخر على أن فكرة «الترانسفير» لم تكن وليدة اللحظة هو أن الخطط الشاملة قد تم الكشف عنها وتداولها مباشرة بعد بدء عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر 2023، وتشمل هذه الخطط المقال الذي نشره مركز الأبحاث الإسرائيلي «معهد مسغاف للأمن القومي والأمن». «الاستراتيجية الصهيونية» في يوم 17 أكتوبر، والتقرير الذي صدر بعد ثلاثة أيام من قبل الموقع الإخباري الإسرائيلي «كالكاليست»، والذي طرح الاستراتيجية نفسها.
إن إعلان مصر والأردن ودول عربية أخرى، صراحة وفورا، رفضها التام لطرد الفلسطينيين، يشير إلى مدى جدية تلك الطروحات الرسمية الإسرائيلية. في يوم يناير 2024، قال بنيامين نتنياهو في تصريح له: «مشكلتنا هي (إيجاد) الدول المستعدة لاستيعاب سكان غزة، ونحن نعمل على ذلك».
وتلا هذه التصريحات تصريحات أخرى، منها تصريح لوزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش عندما قال: «ما يجب فعله في قطاع غزة هو تشجيع الهجرة».
عندها تبنى الخطاب الرسمي الإسرائيلي مصطلح «الهجرة الطوعية». ولكن ليس هناك أي شيء طوعي في تجويع 2.3 مليون فلسطيني، الذين ما زالوا يواجهون الإبادة الجماعية المستمرة، والذين يُدفعون بشكل منهجي نحو المنطقة الحدودية بين قطاع غزة ومصر.
في قضيتها القانونية أمام محكمة العدل الدولية، أدرجت حكومة جنوب إفريقيا التطهير العرقي المخطط له في غزة من قبل تل أبيب كواحدة من النقاط الرئيسية التي ذكرتها بريتوريا، متهمة إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية.
ونظراً إلى قلة الحماس من جانب الدول الغربية المؤيدة لإسرائيل، فإن الدبلوماسيين الإسرائيليين يتجولون حول العالم بحثاً عن حكومات مستعدة لقبول الفلسطينيين الذين تم تطهيرهم عرقياً.
تخيل لو أن هذا السلوك نابع من أي دولة أخرى في العالم؛ بلد يقتل الناس بشكل جماعي، ومع ذلك يجول في العالم بحثًا عن دول أخرى لقبول الناجين المطرودين مقابل المال.
ولم تكتف إسرائيل بازدراء القانون الدولي فحسب، بل إنها وضعت أيضاً معايير جديدة تماماً للسلوك الهمجي من جانب أي دولة، في أي مكان في العالم، وفي أي وقت في التاريخ، قديماً كان أم حديثاً.
ومع ذلك، فإن العالم لا يزال يراقب، ويدعم، كما هي الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، أو يحتج بلطف أو بقوة، ولكن دون اتخاذ أي إجراء ذي معنى لوقف حمام الدم في غزة، أو لمنع السيناريوهات المرعبة التي يمكن أن تتبعها حقاً إذا لم تنته الحرب وتحط أوزارها.
ولكن هناك شيئا واحدا قد لا يعرفه الكثير من الناس، وهو أن الحركة الصهيونية، المؤسسة الأيديولوجية ذاتها التي أنشأت إسرائيل، حاولت نقل يهود العالم إلى إفريقيا، لإقامة دولة، قبل اختيار فلسطين «كوطن لليهود».
وكان هذا يسمى «مخطط أوغندا» عام 1903. وقد أثاره تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية، في المؤتمر الصهيوني السادس. وقد استند إلى اقتراح قدمه وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشامبرلين.
فشل مخطط أوغندا في نهاية المطاف، لكن الصهاينة استمروا في البحث عن مكان آخر، ما أدى في النهاية، ومن سوء حظ الفلسطينيين، إلى هجرة اليهود إلى في فلسطين وإقامة وطن لهم فيها.
إذا أردنا مقارنة لغة الإبادة الجماعية التي يستخدمها القادة الإسرائيليون اليوم، ودراسة إشاراتهم العنصرية إلى الفلسطينيين، فيتعين علينا تحديد التداخل الكبير بين تصورهم الجماعي والطريقة التي كان ينظر بها الأوروبيون إلى المجتمعات اليهودية لمئات السنين.
إن الاهتمام الصهيوني المفاجئ بالكونجو باعتبارها «وطنًا» محتملًا للفلسطينيين يوضح أيضًا النقطة التي مفادها أن الحركة الصهيونية لا تزال تعيش في ظل تاريخها الخاص، مما يبرز العنصرية التي تمارس ضد اليهود في عنصرية إسرائيل ضد الفلسطينيين الأبرياء.
وفي الخامس من يناير 2024، اقترح وزير التراث الإسرائيلي أميهاي إلياهو أن على الإسرائيليين «إيجاد سبل لسكان غزة تكون أكثر إيلاماً من الموت». ولا يحتاج المرء إلى النضال من أجل العثور على مراجع تاريخية للغة مماثلة، التي استخدمها النازيون الألمان في تصويرهم لليهود في النصف الأول من القرن العشرين.
إذا أعاد التاريخ نفسه، فإنه لديه طريقة غريبة وغير لطيفة للقيام بذلك.
لقد قيل لنا إن العالم قد استوعب الدرس من عمليات القتل الجماعي التي ارتكبت في الحروب السابقة، بما في ذلك المحرقة وغيرها من الفظائع التي ارتكبت في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، يبدو أن الدروس التي تعلمناها لم نستوعبها إلى حد بعيد.
لا تتولى إسرائيل الآن دور القاتل الجماعي فحسب، بل يواصل بقية العالم الغربي لعب الدور المنوط بهم في هذه المأساة التاريخية. إنهم إما يهتفون، أو يحتجون بأدب، أو لا يفعلون شيئًا على الإطلاق.
{ أكاديمي وكاتب صحفي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك