في واحدة من الملتقيات التي زرتها مؤخرًا في إحدى الدول الشقيقة، كنت أتحدث في ورقتي العلمية عن أهمية وخواص المسؤول الإداري القائد، وكيف يجب أن يتعامل مع الموظفين سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص. وأتذكر أنه من بين تلك الخواص والصفات تطرقتُ إلى موضوع البخل، بمعنى أن المسؤول الإداري القائد يجب ألا يعاني من صفة البخل وخاصة مع الموظفين، فالموظف يحتاج إلى الكثير من المستلزمات والأمور التي من المفروض أن يوفرها المسؤول القائد، وخاصة إن كانت تلك المستلزمات يمكن توفيرها من غير أن يتأثر المسؤول نفسه أو جيبه، كمنح علاوة أو درجة أو ما شابه ذلك.
وفي فترة الاستراحة، تقدمت مني سيدة محترمة، وطلبت مني تتحدث معي في موضوع معين، فلم أمانع، فجلسنا في زاوية منظورة من وفود الملتقى، ولكنها نوعًا ما بعيدة.
قالت: أنت تحدثت عن المسؤول الإداري القائد البخيل وآثاره وأضراره، ولكن ألا تجد أن الزوج البخيل يمكن أن يتسبب في أضرار أكبر ويمكن أن يدمر المنزل الذي يعيش فيه مع زوجته وأولاده؟
وافقتها الفكرة، فالبخل صفة منبوذة في أي مكان كان، ولكن طلبت منها – كنوع من الفضول – أن توضح أكثر.
ترددت في البداية، ثم قالت: سوف أحكي لك حكايتي، ولكن على ألا تخبر بها أحدا، وإن رغبت في كتابتها ونشرها فلا تذكر أسماء الأفراد، وعدتها بذلك. قالت:
تزوجت منذ سنوات، عن طريق الخطبة العادية، شخصا لا أعرفه، ولكن عائلتي استحسنت الرجل وعائلته. انتهت مراسيم عقد القران وانتقلنا إلى موضوع حفل الخطوبة، وبدأنا نرتب للموضوع، فقال لي: لماذا نسرف كل هذه الأموال على حفلة كبيرة، دعونا نعمل حفلة صغيرة بين أهلي وأهلك فقط، ونترك الحفلة الكبيرة لليلة الزواج، فهي ليلة العمر.
أقنعني بفكرته، فوافقت على ذلك، فالادخار مطلوب وخاصة في هذا الزمن، ولعائلة وليده، أو لم تولد بعد.
بدأنا في عمليات الترتيب والتجهيز، ولكن كنتُ كلما أتصل به، يعتذر عن الحضور بحجج كثيرة، «أنا مشغول، أنا في اجتماع، أنا وأنا.. وهكذا». فكنتُ أدفع من جيبي أو أطلب من والدي المال كلما احتجت إلى ذلك، إذ كنتُ أخجل أن أطلب منه، مع أن الاتفاق كان أن يقوم هو بالترتيبات والتجهيزات كلها، ولكن هذا ما حدث، وحتى الشبكة والدبلة المعتادة فإن المبلغ اللازم جاء مع أخته، ولا أعرف لحد الآن من دفع ثمنها.
الغريب في الموضوع أنني لم ألتق به خلال هذه الفترة، وكان كل الذي بيننا مجرد مكالمات هاتفية فقط، وكان عادة يحادثني من مكتبه في الوزارة في الصباح، ولا يستخدم هاتف المنزل أبدًا، ولم أكن أعرف لماذا؟
ملاحظة للسادة القراء؛ هذا الزواج حدث في زمن لم يكن يوجد إلا الهواتف الثابتة فقط، فلم تكن هناك هواتف محمولة.
جاء في يوم الحفلة، وكان من أوائل الحضور، فلم يحضر أحد بعد، ذهب إلى طاولة العشاء، فأكل، وشرب الشاي والمشروبات، ثم جلس ينتظر بداية الحفل.
بدأت الحفلة، وأنا نسيت كل ما حدث، فقد كنتُ في نشوة وفرح، فمن يفكر في المال والمصاريف في مثل هذه الليلة. ثم ألبسني الدبلة والشبكة، فقال لي: «ذوق أختي جميل في اختيار الشبكة»، ثم سكت وبدأ يوزع الابتسامات، ولكني انصعقت، «ترى، ماذا يقصد؟».
عشنا فترة الخطوبة، نخرج للعشاء أو لمشاهدة فيلم سينمائي أو أي مكان آخر، مثلنا مثل أي عرسان جدد، ولكنه كان عادة يرفض الذهاب إلى مثل هذه الأماكن، تارة بحجة أنه لا داعي لمثل هذه المصاريف، وتارة أنه نسي محفظته، وتارة أن والدته مريضة ويجب أن يجلس معها، وكنتُ – أنا – أدفع من جيبي الخاص كلما دعت الحاجة إلى ذلك، فالله لم أر محفظته قط خلال فترة الخطوبة، فلم يكن يدفع لأي شيء.
مرت شهور، وبدأنا في إعداد لحفلة الزفاف، ومرة أخرى قال: لماذا حفلة ومصاريف؟ دعينا نسافر أفضل، على الأقل نغير جو ونعيش بضعة أيام معًا.
جاء ذات يوم وبين يديه أوراق ومطويات لمكاتب السفر والسياحة، وبالفعل بدأنا نخطط ونفكر، «هذه الدولة أفضل، تلك الدولة أجمل»، وهكذا، حتى اتفقنا على خط السير. فأصبح المبلغ الإجمالي (بضعة دنانير)، فقال: «أنتِ ادفعي نص المبلغ وأنا أدفع النص الآخر، فالحياة التي نرغب في العيش فيها مناصفة بيني وبينك»، لم أفهم ماذا يقصد بذلك، ولكني استغربت من هذا السلوك، إذ اعتدنا أن يقوم الرجل بالدفع كنوع من المبادرة، وخاصة أنها مصاريف شهر العسل، فمثل هذه التكاليف يتحملها الرجل!
ولكني في النهاية وافقت على مضض، ويا ليتني لم أوافق، إذ أصبحت حياتي كلها بعد هذه اللحظة مناصفة، وربما أكثر من ذلك، فأنا التي أدفع أكثر منه في الكثير من الأوقات. فأنا أدفع إيجار الشقة وفواتير الكهرباء والماء، والملابس الخاصة بي وببناتي، وكل مصاريف المدارس ومعظم المستلزمات كنتُ أنا أدفعها، أما هو فقد كان يشتري الاحتياجات الضرورية، وعندما أقول (الضرورية) فإني أقصدها، فلم يكن يشتري أي شيء آخر مهما طلبنا وكان هناك احتياج لها، فلا أعياد ميلاد، ولا هدايا، ولا أي نوع من الطقوس أو أي نوع من الترف أو الترفيه، إن كنتُ أريد أن أرفه عن بناتي كنتُ أنا آخذهم وحدي، أما هو فلم يأت معنا قط.
في شهر العسل، وصلنا إلى الفندق، كان الفندق متواضعا جدًا، فقلت له: «هل أنت متأكد من العنوان؟» فقال: «نعم، هذا هو الفندق»، قلت: «ولكننا دفعنا مبلغا للفندق الفلاني، فكيف تحولنا إلى هذا الفندق»، قال وبكل بساطة: «وجدتُ أن هذا الفندق أرخص بكثير من الفندق الذي اتفقنا عليه، لذلك تحولت إلى هذا الفندق، فهذا الفندق يحوي كل الذي نريد، فلماذا الفندق الغالي، ثم ماذا نريد نحن من الفندق غير غرفة ننام فيها، ومطعم نأكل فيه، وهذا الفندق يحوي كل هذا، فلا داعي للترف والإسراف والتبذير».
للمرة المليون (انصعقت)، ولكني سكت.
ذات مرة ونحن في شهر العسل، قلت له: أرغب في مكالمة والدتي ووالدي، فرفض، لأن هذه تُعد مكالمة دولية وهي غالية الثمن. لم نكن نركب السيارات أو الحافلات أثناء تجوالنا في البلاد، لأنه من المفروض أن نسير على أقدامنا حتى نشاهد المناظر الطبيعية ونتأملها، لم نكن نشتري أي مأكولات من خارج الفندق، لأن الوجبات محسوبة من ضمن تكاليف الإقامة في الفندق. لم نشتر أي هدايا لأي إنسان، لأننا في شهر العسل ومن المفروض أن نستمتع نحن ولا نفكر في شراء أي شيء لأي ما كان.
ذات مرة رغبتُ في شراء أسورة من الفضة من واحدة من المحلات التقليدية الشعبية لنفسي، إلا أنه حاول أن يتملص، ولكني أصررت وقلت له أني «سوف أدفع من جيبي»، فوافق، وللأسف أم أجد في جيبي المبلغ الذي يكفي الأسورة فطلبت منه أن يسدد جزءا من المبلغ، وعندما عدنا إلى الفندق طالبني بسداد المبلغ الذي أخذته منه.
وعندما عدنا إلى البلاد، ذهبت أجري لوالدي وأنا أبكي، وأتذكر أني قلت له أني لا أرغب في العودة إليه، لأنه بخيل.
إلا أن والدي – كعادة الآباء – حاول أن يبحث له عن عذر وأعذار، قال: ربما هو في ضائقة مالية هذه الفترة، وربما هو كذا.. ومثل هذه الأعذار، وانتهى حديثي مع والدي إلى أنه يجب أن أعود إليه «فماذا سيقول الناس، طُلقت فلانة بعد شهر العسل مباشرة؟».
جاءتنا بنتنا الأولى والثانية، وهو يزداد بخلاً على بخل، وأحاول أن أعيش لأطفالي فقط، فكنتُ أشتري لهم احتياجاتهم ومتطلباتهم كلها من غير أن يشعرا بأي نقص، ومن الغرائب أنه لم يكن يسأل – من باب الغيرة حتى – من أين تأتين بكل هذه المشتريات وهذا المال؟ والذي تعلمته منه بعد كل تلك السنوات أن البخيل في المال هو بخيل في المشاعر وفي كل شيء.
عندما يشتري حاجيات المنزل الاعتيادية القابلة للاستهلاك، كالشامبو والصابون والجبن القابلة للدهن وغيرها، يكتب على العلبة تاريخ شرائها، وذلك حتى يعرف متى – بالضبط – اشترى تلك المواد ومتى تنتهي وكيف تُستهلك وما إلى ذلك من أمور، وكان الهدف من ذلك أن يحاسبني ويحاسب أطفالي على الاستهلاك غير المعقول والمتزايد، بالنسبة له، ففي نهاية الشهر نجلس في اجتماع ويضع أوراقه التي سجل فيها كل المواد الاستهلاكية ومتى قام بشرائها ومتى انتهت وما إلى ذلك من معلومات، ويصرخ «الاستهلاك متزايد والهدر في هذا المنزل غير معقول».
كبر الأطفال وزادت المصاريف وتزايد الاستهلاك، وزادت المشاكل، وزاد الغضب، وكل شيء رأيته ينهار وبسرعة كبيرة، بيتي، أطفالي، عائلتي، أعصابي، مشاعري، عواطفي عملي، طموحي، وكل شيء.
وعندما بلغت هذه المرحلة، طلبت الطلاق، ولكنه رفض ولكن كان إلحاحي أكبر منه، وقفت عائلتي معي وكذلك أطفالي، لكنه عاند وعاند بصورة كبيرة، لأنه شعر أنه سوف يخسر كل شيء، وعلى الرغم من ذلك طلبت الخلع، فخلعته، هو رحل وأنا كسبت نفسي وأطفالي، وحياتي، واليوم وبعد سنوات طويلة أشعر أني حرة.
سكتت السيدة، ثم قالت: هذه حكايتي، ومن الجدير بالذكر أني سمعت الكثير من السيدات يعانين من نفس هذه المشكلة، والذي أطلبه من كل بنت تريد الزواج أو من كل أب يأتيه رجل ليتزوج ابنته، وعندما يساءل عن أخلاقه عليه أن يساءل كذلك هذا السؤال: هل هو بخيل؟
انتهت السيدة من الكلام وغادرت، وفكرت في الموضوع فوجدت أنها على حق.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك