زعزعت قدرة حماس على إيذاء إسرائيل في «بيتها في السابع من أكتوبر، واختراق تحصيناتها العسكرية والأمنية والتقنية، شعور الإسرائيليين بالأمن وثقتهم بمؤسستهم الأمنية والعسكرية.
لقد شككت عملية «طوفان الأقصى» في نجاعة السياسات والمعتقدات التي حكمت العقيدة الأمنية الإسرائيلية والتي ارتكزت على أن تفوق إسرائيل العسكري، وإحاطة نفسها بسياج حدودي وقبة حديدية، قادرة على بناء منظومة ردع توفر لها الأمن وقادرة على حمايتها من أي هجمات مضادة.
إن الفشل الذي أصاب المؤسسات العسكرية والاستخبارية الإسرائيلي في التنبؤ بمخططات حركة حماس وتقدير قوة المقاومة الفلسطينية على تنظيم هجوم مدروس واستثنائي ودرء الخطر عن مواطنيها؛ وضع مسألة الأمن الإسرائيلي على المحك، حيث سعت إسرائيل على الدوام إلى تسويق نفسها لمواطنيها وللعالم على أنها «واحة الأمن» وتفاخرت بقدراتها العسكرية وتقدم أنظمتها التكنولوجية العسكرية.
لقد كشفت عملية «طوفان الأقصى» عن انهيار كارثي للاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية لمواجه حماس والمقاومة الفلسطينية. فعلى مدى السنوات التي أعقبت انسحابها من قطاع غزة في عام 2005 وسيطرة حماس عليه في عام 2007، ظنت إسرائيل أن احتواء حماس من خلال تسهيلات تحقيق انفراجات اقتصادية محدودة في قطاع غزة مقابل مساومتها على الالتزام بالهدوء، وردعها من خلال توجيه ضربات عسكرية قوية ترهقها على المستويين القيادي والعسكري، أمران ممكنان، وقادران على جعل التصعيد غير مرجح.
تشير التصريحات التي أدلى بها رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي، إلى قناعة القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل بنجاعة سياسات الردع والاحتواء التي تنتهجها ضد حماس بالرغم من قدرات حماس المتنامية. إذ قلل من التحدي الذي يمكن أن تشكله حماس على أمن إسرائيل، زاعما أن حماس قد تعلمت درساً قاسياً من الضربات العسكرية التي وجهتها لها إسرائيل خلال الحرب على غزة في مايو 2021، وأنها تتشبث بالتسهيلات الاقتصادية في قطاع غزة. إلا أن حماس وبعد كل حرب ضروس خاضتها مع إسرائيل كانت تثبت في قوة أكبر وتستخدم أسلحة أفضل في الحرب التي تليها، بما في ذلك الصواريخ ذات المديات الأبعد، إلى جانب الطائرات من دون طيار.
إن قدرة حماس على استهداف المستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة بالتوازي مع تهديدات حزب الله للمستوطنات في الجبهة الشمالية، عززتا من تراجع الشعور بالأمن لدى المستوطنين الإسرائيليين في الجبهتين، وجعلتا من مسألة تحقيق إسرائيل الاستقرار الأمني لها ولمواطنيها أمراً مستعصياً. فقد قدم «طوفان الأقصى» صورة مغايرة عن إمكانية تحقيق إسرائيل لأمنها من خلال الاستفراد بالفلسطينيين. فللمرة الأولى منذ ما يزيد على خمسين عاماً تكون فيها إسرائيل عرضة لهجمات من جبهات متعددة في آن واحد. فعلى الرغم من نجاح الجهود السياسية والضغط الدولي في الحد من حرب إقليمية تكون إيران طرفاً فيها، فإن مشاركة حزب الله المتصاعدة في الحرب بالتوازي مع ضربات الحوثيين الصاروخية، أثارت مخاوف إسرائيل من التورط في أمر لم تعتده ثقافتها العسكرية والاستراتيجية منذ عام 1973. فمشاركة جبهات أخرى في استهداف إسرائيل فرض تهديداً أكثر تعقيداً للشعور بالأمن لدى الإسرائيليين اضطرهم لإخلاء التجمعات الاستيطانية على الحدود الشمالية، أو الدخول إلى الملاجئ والغرف الآمنة في أماكن أخرى من الأراضي المحتلة عام 1948.
إن إقناع الإسرائيليين بأن إسرائيل «واحة أمن» أصبح على المحك في ظل تزايد حالة العداء تجاهها، وتجسيد ذلك عملياً في تعدد الهجمات من جبهات مختلفة. ولاسيما أن عودة المستوطنين إلى مستوطنات الغلافين أصبحت خاضعة لقدرة إسرائيل على ضمان أمنهم من التهديدات عبر تلك الحدود، وهو الأمر الذي سوف يجهد إسرائيل كثيراً، ليس فقط لتبني استراتيجية دفاعية جديدة وقوية، بل أيضاً لإقناعهم بقدراتها على الحفاظ على أمنهم، وأن إخفاقها في السابع من أكتوبر كان كبوة لن تتكرر؛ ناهيك أيضا عن إقناع الإسرائيليين أنفسهم بأن إسرائيل هي «الوطن الآمن» لليهود.
منذ السابع من أكتوبر تزايدت أعداد الإسرائيليين الذين غادروا البلاد وفقا لتقرير نشره موقع صحيفة «زمان إسرائيل» نقلا عن سلطة السكان والهجرة الإسرائيلية والذي أشار إلى أن ما يزيد على 370 ألف إسرائيلي غادروا إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، ويتوقع ارتفاع أعدادهم مع استمرار عدم الاستقرار الأمني الذي تعاني منه إسرائيل ولاسيما مع تصاعد التوتر على الجبهة الشمالية مع لبنان، والمواجهات المتواصلة في الضفة الغربية المحتلة.
{ الدكتور قصي حامد مساعد عميد كلية الإعلام الجديد في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. خبير في الشأن الإسرائيلي صدر له كتاب «حماس في السلطة: مسألة التحولات».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك