تناول «ديفيد ماك»، نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى سابقًا، أثناء إدارة «جورج بوش الأب»، الوضع في غزة، موضحًا كيف أن اختبار القيادة «لرجل الدولة الحقيقي»، يتمثل في «تحويله مآسي الصراع إلى صنع السلام». ويرتبط هذا القول ارتباطًا وثيقًا بوزراء خارجية الولايات المتحدة السابقين، وأبرزهم «هنري كيسنجر» في السبعينيات، و«جيمس بيكر» في أوائل التسعينيات.
وعلى الرغم من أن وزير الخارجية الأمريكي، «أنتوني بلينكن»، يواجه في الوقت الحالي العديد من التحديات نفسها التي واجهها «كيسنجر»، قبل نصف قرن؛ بما في ذلك الحاجة إلى إنهاء الصراع في الشرق الأوسط والذي يشمل إسرائيل، إلا أنه فشل بشكل كبير في الارتقاء إلى مستوى التحدي الجيوسياسي الذي يواجه. وتحت سمعه وبصره، أدى العدوان الإسرائيلي على غزة إلى تدمير ما يقارب 70% من منازل القطاع، واستشهاد ما يزيد على 22 ألف فلسطيني – معظمهم من النساء والأطفال – وإصابة نحو 58 ألفا. وعليه، حذرت «الأمم المتحدة»، من أن «نصف سكان غزة يواجهون الآن خطر المجاعة الشديدة، وتفشي العنف إلى ما هو أبعد من القطاع، وتسهيل التصعيد الإقليمي الذي اجتاح منطقة تمتد من باب المندب إلى لبنان والعراق».
ومن الواضح أن إحجام «بلينكن» – وغيره من مسؤولي إدارة بايدن – عن انتقاد إسرائيل أو سن سياسات تضع السلام والاستقرار وحقوق الإنسان في المنطقة فوق المصالح العسكرية لرئيس وزرائها «بنيامين نتنياهو»، هو أمر تحركه بقوة المخاوف السياسية المحلية. ومع ذلك، فإن الأمثلة التاريخية لوزراء الخارجية السابقين ممن صمدوا أمام مثل هذه الضغوط، ودفعوا مسار السلام في الشرق الأوسط، يجب أن تكون بمثابة دليل على كيفية إحراز تقدم مع التحلي بقناعة أخلاقية وسياسية قوية.
وسلطت وفاة «هنري كيسنجر»، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق في نوفمبر2023، الضوء على سجله الشخصي في تعزيز السلام بالشرق الأوسط، وهو ما يتناقض حاليًا مع إخفاق «بلينكن» في القيام بالمثل. ومن خلال استخدامه «الدبلوماسية المكوكية»، اليقظة في أعقاب حرب أكتوبر 1973، تمكن من العمل مع الرئيس المصري، أنور السادات، وإسرائيل بشأن سلسلة من الاتفاقيات الأمنية الإضافية التي نجحت في نهاية المطاف بالتوصل إلى اتفاقيات «كامب ديفيد» عام 1979. ووفقًا لـ«مايكل هيرش»، في مجلة «فورين بوليسي»، «كان محور هذا النجاح، هو كيفية احترامه لمعارضيه، وفرضه احترامهم له من خلال «لمسة شخصية»، ذات صبغة دبلوماسية، والتي نجحت في «كسب استمالة القادة والدبلوماسيين الأجانب، فضلا عن وعيه بالتاريخ».
وفي حين أن «جون كيري»، وزير الخارجية في عهد «باراك أوباما»، دفع أيضًا إلى اتخاذ تدابير إضافية لبناء الثقة بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية خلال الفترة من (2013-2014)، وشارك بنشاط في جهود الوساطة المباشرة؛ فقد فشل «بلينكن»، عام 2023 في بناء علاقة عمل مع أي شركاء إقليميين. وأرجع «أنتوني زورشر»، من شبكة «بي بي سي»، السبب إلى أن تحركاته في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لم تأت في إطار من الجهود الدبلوماسية العامة، وتمت «تحت غطاء من السرية»، وبوجود أمني كثيف ومخيف.
علاوة على ذلك، يتناقض المدى الذي ذهب إليه «بلينكن» – وبقية إدارة بايدن – لحماية إسرائيل من الإدانة الدولية والمساءلة عن هجماتها ضد المدنيين الفلسطينيين داخل غزة أيضًا، بشكل حاد مع فترة ولاية «بيكر»، وزير الخارجية، إبان حكم «جورج بوش الأب» أوائل التسعينيات.
وفي أوقات الأزمات الدولية المماثلة يقع على عاتق القوى الرئيسية الكبرى، مثل «الولايات المتحدة»، و«المملكة المتحدة»، و«الاتحاد الأوروبي»، أن يكونوا «حكاما غير متحيزين، ومحايدين»؛ لأنهم من يمتلكون أكبر قدر من النفوذ السياسي والدبلوماسي الدولي لحل النزاعات قبل أن تتصاعد. وفي حين ينطبق هذا الوصف على «بيكر»، فقد قدم «بلينكن»، وزملاؤه داخل «إدارة بايدن»، دعمهم الكامل لإسرائيل. وأعلن وزير الخارجية بنفسه أنه «طالما أن أمريكا موجودة»، فإنها ستوفر الوسائل العسكرية لإسرائيل لقتال أولئك الذين تعتبرهم أعداء لها».
وتأكيدًا لهذا التحليل، قدمت «واشنطن»، دعمها المطلق لقوات الاحتلال، وزودتها بالسلاح والدعم السياسي، ولم يقتصر الأمر على قيام ممثليها في «الأمم المتحدة»، بعرقلة قرارات مجلس الأمن التي تدعو إلى السلام بشكل متكرر؛ بل قام مسؤولوها بالتنسيق مع نظرائهم الإسرائيليين طوال الحرب وتقديم الدعم لهم. وعلى سبيل المثال، التقى «بلينكن»، أواخر ديسمبر الماضي، «رون ديرمر»، وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي في واشنطن، حيث ناقشا نوايا إسرائيل طويلة المدى بشأن غزة.
وبصفته وزيرا للخارجية، أعطى أيضًا الضوء الأخضر لإدارة بايدن لتجاوز الرقابة من الهيئات السياسية لمساعدة آلة الحرب الإسرائيلية. وفي نهاية ديسمبر2023، تجنب «البيت الأبيض» – للمرة الثانية – موافقة «الكونجرس»، على بيع الأسلحة لإسرائيل، مع استخدامه لصلاحيات الطوارئ للموافقة على نقل معدات بقيمة 147.5 مليون دولار تتعلق مباشرة بقصف أهداف مدنية.
وعلى النقيض من ذلك، رأى «جوناثان ستيل»، في صحيفة «الجارديان»، كيف كان «بيكر»، «الرجل الذي قال لا لإسرائيل»، وأنه – إلى جانب بوش – «لم يكن خائفا من الاختلاف علنا مع القادة الإسرائيليين»، أو «حتى اللجوء لحجب المساعدات كأداة لممارسة الضغط». وعلى وجه الخصوص، أشار إلى كيف كان «صارما» في إدانته نائب وزير الخارجية الإسرائيلي –آنذاك – «نتنياهو»، «بطريقة لم تجرؤ إدارتا «كلينتون»، و«أوباما»، على القيام بها أبدًا»، وبالتحديد من خلال منعه دخول وزارة الخارجية الأمريكية، ورفض مقابلته شخصيا بعد محاولة «نتنياهو»، تقويض جهود «واشنطن» – حينئذ – لبناء سلام دائم في الشرق الأوسط.
في مقابل ذلك، فشل «بلينكن»، في إظهار نفس التصميم تجاه القيادة الأخلاقية والسياسية تجاه الحرب في غزة، حيث رفض إدانة القصف الإسرائيلي لأهداف مدنية داخل القطاع، حتى في الوقت الذي يدين فيه القصف الروسي للمدن الأوكرانية، بل على العكس أظهر دعمه المطلق لإسرائيل، بما يُمكن حكومتها اليمينية المتطرفة من التصرف بأي وسيلة ترغب فيها، فضلًا عن عدم تحذيرها من مغبة عدم الالتزام بالقانون الدولي.
ورغم أن «إدارة بايدن»، انحازت بشدة لمطالب جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل داخل «واشنطن»، فقد أشار «ستيل»، إلى عدم مبالاة «جيمس بيكر»، باتهامه من قبل وسائل الإعلام الأمريكية بمعاداة السامية، حيث استطاع أن يواجه هذا الاتهام مباشرة، حينما أخبر أعضاء لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) في خطاب ألقاه عام 1989، بأنه يجب على إسرائيل «أن تضع إلى الأبد رؤيتها غير الواقعية حول إسرائيل الكبرى جانبًا»، وأن تضع حدا لطموحاتها في استيطان، وضم الأراضي الفلسطينية، واحتلال الأراضي العربية.
ومثلما كان الحال مع «كيسنجر»، لا يمكن إنكار تمكن «بيكر»، أيضًا من الاستفادة من قوة الدور الأمريكي في المنطقة لخدمة قضية السلام في الشرق الأوسط، لدرجة أنه وُصف بأنه «المهندس الرئيسي لمؤتمر مدريد عام 1991»، وفقًا لما ذكره «ستيل». وعلى الرغم من أن «ستيفن والت»، من جامعة «هارفارد، أقر بأن هذا الحدث وحده «لم يسفر عن نتائج ملموسة، مثل التوصل إلى اتفاق سلام نهائي»، إلا أنه أكد أنه «وضع الأساس لجهد جاد لبناء نظام إقليمي سلمي».
وبسبب دعم «واشنطن»، الذي لا ينتهي لإسرائيل، ورفضها الانضمام إلى الإجماع الدولي بشأن وقف حربها وانتهاكاتها في غزة، لم يكرر «بلينكن»، دعوة «بيكر»، لعقد قمة دولية للمضي قدمًا في إنهاء القتال. وعليه، شبه «ديفيد سيلفان»، من «المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية»، التدابير التي قام بها «بلينكن»، برقصة الكابوكي المسرحية اليابانية – المعتمدة على المراوغة والخداع – لأن «اهتمامه الظاهري بشأن الدمار الذي خلفته الحرب»، لم تكن «تُترجم إلى ضغط حقيقي على إسرائيل»، لوقف عدوانها على غزة.
وفي حين أن المعلقين الغربيين، مثل «والت»، ينظرون إلى قمة «بيكر»، في مدريد بتقدير واحترام كبيرين لدرجة أنهم يتأسفون على احتمالات تغيير مسار الأحداث «لو أعيد انتخاب بوش عام 1992، وأتيحت لفريقه الفرصة بمواصلة جهوده»؛ فإنه بالنظر إلى السجل الحالي لـ«بلينكن» – وبقية إدارة بايدن – ومدى الجدارة في استخدام الأدوات الدبلوماسية في غزة، فقد فشلوا فشلا واضحا في تحقيق السلام والاستقرار في القطاع، بل وفي الشرق الأوسط بأكمله، ما يعزز خروجهم من البيت الأبيض في نوفمبر 2024.
وعلى الجانب الإنساني أيضًا، لا بد من الإشارة إلى ردود فعل وزراء خارجية الولايات المتحدة السابقين إزاء الكارثة الإنسانية داخل غزة. وفي أعقاب هجوم حماس في 7 أكتوبر مباشرة، أوضحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «كونداليزا رايس»، أن هذا الهجوم هو أحد أعراض «محنة الشعب الفلسطيني»، مؤكدة أنه «لو انسحبت إسرائيل من الضفة الغربية، لكان من الممكن تجنب الهجوم». وفي أواخر أكتوبر 2023، انتقد «بيكر»، علنًا «رد الفعل المبالغ فيه»، من قبل إسرائيل، والمعني بقطع إمدادات الوقود، والكهرباء، والأدوية عن المدنيين.
وعند النظر في سجل «بلينكن»، من الضروري التساؤل عما إذا كان هذا الدبلوماسي الرفيع المستوى مناسبًا لقيادة دور «الولايات المتحدة»، الداعم للسلام في المنطقة. وفي حين كان «كيسنجر»، و«بيكر»، من أبرز وجوه السياسة الخارجية في القرن العشرين، وكانا يحظيان بالاحترام في جميع أنحاء العالم، من الأصدقاء والأعداء على حد سواء؛ فقد شهدت -ومازالت- فترة ولاية «بلينكن»، لوزارة الخارجية، تدهورًا في الصورة العالمية لواشنطن، كقوة داعمة للسلام في العالم، بصورة أسوأ مما كانت عليه في السابق.
وفي تأييد لهذا، لم يُظهر وزير الخارجية الحالي، أيا من ملامح الحنكة السياسية والفطنة الدبلوماسية في التعاون مع جميع الأطراف، أثناء العدوان الهمجي على غزة. وعلى سبيل المثال، أوضح للدول في الشرق الأوسط تفضيله لمصالح إسرائيل، بالقول إنه «يقف إلى جانبها على المستوى الشخصي»، فيما قام بزيارة العديد من دول المنطقة، «ليس فقط بصفته وزيرا لخارجية الولايات المتحدة، ولكن أيضًا بصفته يهوديًا». وفي هذا الصدد، أشار «برين كاريل»، إلى أن «كيسنجر»، على الرغم من كونه «يشعر بالفخر لكونه يهوديًا»، فإنه «لم يغفل أبدًا الحاجة إلى الحفاظ على التوازن في الشرق الأوسط». وبالتالي، حينما يتعلق الأمر بحياته المهنية، «فقد وضع مصالح الولايات المتحدة أولاً، بعيدًا عن هويته اليهودية، وبعيدًا عن أي انحياز لإسرائيل».
وعلى الرغم من أن «بلينكن» أستأنف جولته في الشرق الأوسط مؤخرًا؛ فإن موقف الدبلوماسية الأمريكية الراهن تجاه حرب إسرائيل على غزة، يعني أن التوقعات بحدوث انفراجة تبدو «بعيدة المنال». وعلى حد تعبير «إيفو دالدر»، السفير الأمريكي السابق لدى حلف شمال الأطلسي، فإن «الولايات المتحدة»، «تقف بمفردها إلى حد كبير»، في مسألة دعمها لاستمرار الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
وعلى الرغم من فشله – حتى الآن – في إحداث «تغيير ملموس»، في دعم الحلول الدبلوماسية لإنهاء الحرب، فإن الدور الذي مارسته «كونداليزا رايس»، في دبلوماسية المنطقة، يجب أن يكون بمثابة «نموذج»، لضرورة تبني سياسات، وبذل جهود جديدة في هذا الصدد. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه في عام 2007، بعد «ما يقرب من مضي سبع سنوات مضطربة»، من عدم التقدم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، قادت «رايس»، القضية بنوع من الدبلوماسية النشطة، نحو تحول وجهد مذهلين توجا بلقاء وجها لوجه في مؤتمر «أنابوليس»، بين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق «إيهود أولمرت»، والرئيس الفلسطيني «محمود عباس» في نفس العام.
على العموم، مع استنتاج «ستيل» – استنادا إلى ما مارسه «بيكر» – أن «الضغوط الأمريكية على إسرائيل نجحت في إحداث تغيير إيجابي في الماضي»؛ فإن استخدام «بلينكن»، نفوذه دبلوماسيًا للمساعدة في إنهاء العدوان على غزة، وبالتالي منع تفاقم التصعيد في المنطقة بأكملها، بات «أمرا حتميا».
ومع ذلك، حذر «والت»، من أنه إذا كانت «النتيجة النهائية» للعمل الدبلوماسي الأمريكي بقيادته هي «مجرد عودة إلى وضع ما قبل السابع من أكتوبر»، فإنه يخشى أن بقية دول الشرق الأوسط، بل والعالم، سوف يشعر «بحالة يرثى لها من الاستياء والاستنكار»، بعد أن فشلت «واشنطن»، بقيادة كبير دبلوماسييها في الدفاع عن القانون الدولي، وحقوق الإنسان، وحماية المدنيين العزل، خاصة النساء والأطفال، ما أدى إلى تدمير الثقة الإقليمية فيها كوسيط في عملية السلام بالشرق الأوسط.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك