استقالة رئيسة جامعة هارفرد التاريخية العريقة تحت وطأة القوة والتهديد، أو في الحقيقة إقالتها، يجب ألا تمر علينا مرور الكرام، فهي قضية لا تخص العالم الأمريكي فحسب، وإنما تخص وتنعكس على كل دول العالم بدون استثناء. فمن المعلوم أن أي قضية بهذا المستوى لا تقع تأثيراتها على الشعب الأمريكي والسياسة الأمريكية وحدها، وإنما علينا جميعاً أيضاً بصفة مباشرة وعلى المدى القريب والبعيد.
فأمريكا بقوتها ونفوذها الواسع وهيمنتها على الساحة الدولية سياسياً وعسكرياً، لا بد أن لها النفوذ نفسه، والسلطة ذاتها من الناحية الفكرية، والثقافية، والتعليمية، وأي فِكْر تطرحه أمريكا، وأي موقف تتخذه أمريكا، وأي رأي تتبناه فهو في أغلب الأحيان يُعمم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على كل دول العالم، سواء عن طريق الضغط من خلال القنوات الدبلوماسية الرسمية وغير الرسمية ووسائل الإعلام الأمريكية، أو عن طريق أداة منظمات ووكالات الأمم المتحدة.
فجامعة هارفرد ليست جامعة عادية وإضافة عددية إلى باقي جامعات العالم المتناثرة والمنتشرة في كل حدب وصوب بكل زاوية من زوايا دول العالم تحت مسمى «جامعة»، ولكنها تُعد من أولى الجامعات على المستوى الدولي، حيث تم إنشاؤها عام 1636، أي قبل 388 عاماً، تحت مسمى «كلية هارفرد». وهذه الجامعة أُسست لتكون منبراً مستقلاً لحرية الرأي والتعبير، ومكاناً آمناً للتعددية الفكرية والثقافية والعرقية، وموقعاً متميزاً للبحث والدراسات العلمية الأصيلة الرفيعة المستوى في المجالات كافة. فهذه الجامعة تحتل منذ تأسيسها عادة على المركز الأول بدون منازع في التصنيف الجامعي، فطلبة الجامعة عادة ما يكونون من المميزين عند اختيارهم وانتقائهم للقبول في الجامعة، ونتيجة لذلك فإن الخريجين في هذه الجامعة المرموقة يكونون من المؤهلين والمرشحين لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، والكثير منهم أصبحوا أعضاء في الكونجرس الأمريكي، كما أن العديد منهم نالوا أعلى وأفضل جائزة علمية دولية هي جائزة نوبل.
فكل هذه الأسباب تدعوني إلى النظر والكتابة في قضية الاستقالة الإجبارية تحت الضغوط السياسية لرئيسة هذه الجامعة، فهي ليست بسيطة، وليست «روتينية» وعادية كما يحدث في الكثير من الجامعات حول العالم. فاستقالة رئيسة الجامعة أَنْظر إليها، وأُحللها كإقالة مباشرة لحرية الرأي والتعبير في أمريكا وحول العالم أجمع، وإقالة رئيسة هارفرد تنعكس فورياً على إقالة الفكر الموضوعي المستقل والحر والمَبْني على الدراسات العلمية المنهجية، وإقالة رئيسة الجامعة تعني لي إرهاب الدولة الأمريكية، ممثلة في «لجنة التعليم والقوى العاملة» في مجلس النواب في الكونجرس لكل من يخالف تيار الصهيونية الأمريكية المتغطرس الذي يتغطى تحت ستار «معاداة السامية»، وإقالة رئيسة هارفرد تنعكس على مواقف وسياسات دول العالم بالنسبة لحرية الرأي والتعبير وحرية الكلمة والفكر في قضية نفوذ الصهيونية، ودولة الكيان الصهيوني، فتقول هذه الإقالة لدول العالم، كما قال فرعون للناس: «ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلى سبيل الرشاد». أي أن الحكومة والكونجرس في أمريكا يهددان ويقولان إن على حكومات العالم أن تتعظ وتتعلم من درس إقالة رئيسة هارفرد فلا تُكرر «أخطاءها»، ولا تدين بدينها، فمصيرها سيكون نفس مصير رئيسة الجامعة.
ولكن الواقع في الحرم الجامعي لجامعة هارفرد وجامعات أمريكية مرموقة ومشهورة على المستويين الداخلي والخارجي، وخاصة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، ألقى الرعب في نفوس الصهاينة الأمريكيين، وجعل قلوبهم تزيد نبضاتها خوفاً من انحراف البوصلة عن الخط الذي رسموه وخططوا له عقودا طويلة من الزمن، واستثمروا وأنفقوا في استدامته ومنع تغيره المليارات من الدولارات. فبعد طوفان الأقصى تحول الحرم الجامعي في هارفرد والجامعات الأخرى إلى مكانٍ آمن للدفاع عن القضية الفلسطينية ونشر الوعي السليم والصحيح بأحقية هذه القضية العادلة، وبيان الوجه الحقيقي الواقعي لدولة الكيان الصهيونية المبنية على التفرقة العنصرية، وإبادة الشعب، واغتصاب الأرض طوال أكثر من 80 عاماً. ومثل هذه الحملات التوعوية زادت وتيرتها وارتفعت شعبيتها، ليس في الحرم الجامعي فحسب، ولكن في خارج الجامعات، حيث انطلقت المسيرات المليونية المنددة للكيان العنصري المعتدي، والمنتقدة لممارساتها من الإبادة الجماعية للبشر، والحجر، والشجر.
فهذا الوضع العام في الجامعة وخارج الجامعة، وتمدد دعم القضية الفلسطينية على كافة المستويات وتعدي الخطوط الحمراء، كان لا بد من أن يقف فوراً وبشكلٍ مباشر وحازم، وكان لا بد من اتخاذ إجراء قوي وشديد على أعلى المستويات التشريعية لإيقافه عند حده، فيكون درساً رادعاً للجميع، على المستويين الأمريكي والدولي. فكانت جلسة استماع الترهيب والتخويف التي عقدها الكونجرس ممثلاً في مجلس النواب في 5 ديسمبر 2023 ومن الأعضاء اليمينيين الجمهوريين العنصريين والمتشددين بصفة خاصة لثلاث من أقوى وأكثر جامعات أمريكا والعالم نفوذاً وسمعة وتأثيراً، من بينها جامعة هارفرد. وقد سمعتُ إلى جانبٍ من هذه الجلسة التي استمرتْ ساعات طويلة، وكانت مليئة بالتهديد لرؤساء الجامعات، والقسوة عليهم بأسئلة غير لائقة وغير موضوعية، واستخدام لغة التخويف والترهيب والاستفزاز للنطق بعبارة حماية السامية في الحرم الجامعي وكبح جماح كل من يقول أو يفعل ما يؤشر إلى «معاداة السامية».
وختاماً نرى بأن الصهيونية الأمريكية والغربية تعمل جاهدة منذ عقود بجميع الوسائل والأدوات، وتضغط وتهدد بقوتها السياسية والعسكرية، وتنفق المليارات من الدولارات على قضاياهم الباطلة والفاسدة من أجل تلميع صورة الصهاينة في دولة الكيان الصهيوني وتسيد وتأصيل وهيمنة الثقافة الغربية في كل دول العالم، إلا أن نفقاتهم انقلبت عليهم وأصبحت حسرةً وندامة ولعنة، فها هي الشعوب حول العالم، وبالتحديد الشعب الأمريكي زاد وعيه واهتمامه بعدالة القضية الفلسطينية خاصة وبالإسلام عامة، فالحق سيعْلو ولا يُعْلى عليه مهما طال الزمن أو قصر.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك