في الأول من يناير 2024 أشارت وسائل الإعلام الإيرانية إلى أن إيران أرسلت مدمرة وسفينة حربية نحو البحر الأحمر للتواجد بالقرب من مضيق باب المندب، المدمرة «ألبرز» مزودة بصواريخ كروز بحرية بعيدة المدى وهي ضمن المجموعة 94 التابعة للقوات البحرية الإيرانية.
ولم تكن هي المرة الأولى التي تتواجد فيها إيران في تلك المنطقة فمنذ عام 2009 وتعمل القوات البحرية الإيرانية فيها وكانت الأهداف المعلنة هي مواجهة القرصنة وفقاً لقرارات أممية بشأن مواجهة القرصنة قبالة الصومال والقرن الإفريقي عام 2008 أتاحت للعديد من القوى الإقليمية والدولية وكذلك المنظمات للتواجد في تلك المنطقة، ولكن توقيت إرسال تلك المدمرة والسفينة الحربية قد آثار الكثير من التساؤلات حول الهدف من ذلك؟ وتأثيره على الصراع بالقرب من مضيق باب المندب الاستراتيجي والبحر الأحمر الذي يعتبر معبراً لحوالي 12% من التجارة الدولية.
وفي تصوري أن الأهداف الإيرانية من تلك الخطوة هي أولاً كنوع من الرد على ما تردد بشأن تراجع الدعم الإيراني للجماعات دون الدول في المنطقة، فمنذ بداية الأحداث في غزة وتدير إيران الأزمة بشكل حذر وهو ما يعكس استراتيجية إيران في الصراعات عموماً وهي الاحتفاظ بقواتها للحظة الأخيرة، وفي أعقاب اشتباكات الحوثيين مع بعض السفن، فإن تواجد المدمرة الإيرانية يأتي كنوع من التضامن مع ما تقوم به الجماعة، وثانياً: محاولة إيران استعراض قوتها البحرية فمن الهجمات على ناقلات النفط خلال الفترة من 2019 وحتى 2021 قبالة سواحل الفجيرة وسواحل عمان إلى التواجد قرب باب المندب، حيث حرصت إيران على تنفيذ استراتيجية متكاملة لتطوير قواتها البحرية منذ انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية وحتى الآن ومن بينها القيام بدفاع متعدد المستويات في المياه الساحلية ليس بهدف الحد من قوة العدو بل عرقلة قدرته على الحركة وليس أدل على ذلك من كثافة المناورات البحرية التي أجرتها القوات البحرية الإيرانية منذ عام 2020 وحتى الآن ومن بينها مشاركة روسيا والصين في بعض منها، وثالثاً: وفقاً للرؤية الإيرانية فإن أي ترتيبات للأمن الإقليمي لابد وأن تتأسس على رؤية دول المنطقة وهو ما يفسر إعلان إيران مبادرات للأمن البحري وهي مبادرة هرمز للسلام 2019 واقتراح تحالف بحري عام 2023 يضم إيران وأربع من دول الخليج العربي والعراق، ومن ثم فإن إعلان الولايات المتحدة قيادة تحالف الازدهار لتأمين الملاحة البحرية في باب المندب تراه إيران يتعارض مع رؤيتها ومصالحها وقد تمثل رد الفعل الإيراني في تصريح قائد القوات البحرية للحرس الثوري بالقول «أنشأنها قوات تعبئة المحيطات وتشمل زوارق كبيرة بما يكفي للوصول إلى تنزانيا» مشيراً إلى أن «الخطوة التالية هي تأسيس قوة التعبئة البحرية وسوف تتكون من 55 ألف عنصر».
وعلى الرغم من حالة التوتر الراهنة بالقرب من مضيق باب المندب ووجود تصريحات وأخرى مضادة منها تصريح وزير الدفاع الإيراني رداً على تأسيس تحالف الازدهار «البحر الأحمر منطقتنا ونسيطر عليه، ولا يمكن لأحد المناورة فيه»، ورد لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي بالقول «على إيران الكف عن دعم هجمات المتمردين الحوثيين على سفن تجارية مؤخراً في البحر الأحمر» فإنه في تقديري لن يكون هناك صدام بحري في باب المندب أو البحر الأحمر لثلاثة أسباب أولها: بالرغم من القدرات البحرية المتوافرة لدى إيران فإنها تدرك جيداً تفوق الولايات المتحدة البحري وإذا ما لزم الأمر فإن الناتو سيكون طرفاً حتى إذا تطلب الأمر صدور إجماع أطلسي أو قرار أممي بشأن ضرورة التدخل لحماية الملاحة البحرية، وثانيها: أن هناك سقفا أعلى للصراع وحال تجاوزه سيكون هناك رد قاس والتاريخ يخبرنا بأنه في أعقاب إصابة لغم بحري فرقاطة أمريكية بأضرار بالغة في مياه الخليج العربي خلال الحرب العراقية – الإيرانية التي شهدت 122 حالة اعتداء على ناقلات النفط في الخليج خلال تلك الحرب حدثت مواجهة مباشرة بين القوات البحرية الأمريكية والأسطول الإيراني مدة يوم واحد وقد أجمعت كافة المصادر على أنه تم إغراق نصف الأسطول البحري الإيراني، وثالثها: أن أمن الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر لا يرتبط بإيران والدول الغربية فحسب بل إن الأطراف الإقليمية الأخرى معنية بالأمر بالدرجة الأولى بل ترى أن أمن الملاحة في البحر الأحمر مسؤولية دوله المشاطئة وكان الموقف المصري واضحاً في هذا الشأن، وبالتالي تدرك إيران معارضة الدول الإقليمية للوجود الإيراني بالقرب من الممر المائي، ففي عام 2015 عندما أثيرت مصادر بأن إيران بصدد إرسال سفن للبحر الأحمر كانت هناك ردود أفعال عربية مفادها أن الوجود في المياه الدولية أمر طبيعي إلا أن التواجد الإيراني في المياه الإقليمية لليمن سيكون بمثابة إعلان حرب وتدرك إيران جيداً معنى أن تتحد القوة الإقليمية والعالمية لحماية الملاحة البحرية في تلك المنطقة.
ولا شك أن تفاعلات القوى الإقليمية والدولية في باب المندب والبحر الأحمر قد جاء على خلفية الأحداث في غزة ، ولكن من منظور أنواع الأزمات التي توافق عليها باحثو العلوم السياسية وهي التلاعب والتوريط وحافة الهاوية والانفلات، ففي تقديري أن الأحداث قرب باب المندب لاتزال تدور في فلك النوع الأول والثاني، ففي أزمة التلاعب يسعى كل طرف إلى التعرف على إمكانية إجبار الطرف الآخر على تقديم تنازلات، أما المستوى الثاني فيتضمن حوادث لم يكن مخططاً لها ولكنها تبقى أيضاَ ضمن نطاق التحكم والسيطرة لسبب مؤداه أنه لا مصلحة لأي طرف بتصعيد الصراع والوصول لمرحلة اللا تراجع.
ومع أهمية ما سبق إلا أنه من منظور واقعي شامل لا توجد مصلحة لأي طرف في حدوث مواجهات في البحار لأنه كما أشرت في مقالات سابقة فرص المناورة في البحار منعدمة ، من ناحية ثانية تعد البحار ساحة مناسبة تماماً للحروب غير المتكافئة فمن خلال طائرات مسيرة وزوارق رخيصة الثمن يمكن استهداف أهداف ثمينة وهنا تبرز المصلحة والكلفة كمحدد لمسار الصراع، من ناحية ثالثة فإن المواجهة العسكرية وما سوف يترتب عليها تعني عملياً انتهاء فاعلية الردع كسياسة للعديد من الأطراف الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى ما سوف يرتبه صدام بحري كهذا على إمكانية تواجد قوى دولية أخرى في المنطقة وتأثير ذلك سواء على توازن القوى الإقليمي أو ضمن الصراع والتنافس العالمي الذي ستكون الممرات المائية أحد مجالاته.
وأخيراً وليس آخراً، بغض النظر عما ستؤول إليه التطورات الراهنة في باب المندب والبحر الأحمر، فإن حالة الأمن البحري استقراراً أو توتراً تظل نتيجة واقع الأمن الإقليمي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك