العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

كيف ستعجل حرب غزّة بانهيار النظام الدولي الراهن؟

بقلم: د. حسن نافعة {

الاثنين ٠٨ يناير ٢٠٢٤ - 02:00

حين‭ ‬انهار‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬ثنائي‭ ‬القطبية،‭ ‬عقب‭ ‬تفكك‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬حلّ‭ ‬محلّه‭ ‬نظام‭ ‬أحادي‭ ‬القطبية‭ ‬تهيمن‭ ‬عليه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬منفردة‭. ‬ولأن‭ ‬فجوة‭ ‬القوة‭ ‬الشاملة‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬آلت‭ ‬إليها‭ ‬مقاليد‭ ‬الهيمنة‭ ‬وأيٍّ‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬المرشّحة‭ ‬للمنافسة‭ ‬على‭ ‬قيادة‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬المنظور،‭ ‬بدت‭ ‬واسعة‭ ‬جدا‭ ‬آنذاك،‭ ‬فقد‭ ‬تصوّرت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬الوقت‭ ‬قد‭ ‬حان‭ ‬لإعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬بنية‭ ‬النظام‭ ‬الموروث‭ ‬عن‭ ‬حقبة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬تمكّنها‭ ‬من‭ ‬ضمان‭ ‬استمرار‭ ‬هيمنتها‭ ‬المنفردة‭ ‬عليه‭ ‬أطول‭ ‬فترة‭ ‬ممكنة‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬إقدام‭ ‬بعض‭ ‬شرائح‭ ‬اليمين‭ ‬الأمريكي‭ ‬المتطرّف،‭ ‬خصوصا‭ ‬التي‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬عقب‭ ‬وصول‭ ‬جورج‭ ‬دبليو‭ ‬بوش‭ ‬الابن‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الألفية،‭ ‬على‭ ‬طرح‭ ‬تصوّرات‭ ‬محدّدة‭ ‬حول‭ ‬أنسب‭ ‬السبل‭ ‬التي‭ ‬تمكّن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬ضمان‭ ‬هيمنتها‭ ‬المنفردة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬طوال‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين،‭ ‬تناولها‭ ‬‮«‬مشروع‭ ‬القرن‭ ‬الأميركي‭ ‬الجديد‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬اعتقد‭ ‬هذا‭ ‬التيّار‭ ‬اليميني،‭ ‬وخصوصا‭ ‬بعد‭ ‬أحداث‭ ‬11‭ ‬سبتمبر‭ (‬2001‭) ‬أن‭ ‬الفرصة‭ ‬قد‭ ‬لاحت‭ ‬لفرض‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأميركية‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬بقوة‭ ‬السلاح،‭ ‬تحت‭ ‬غطاء‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬الكونية‭ ‬على‭ ‬الإرهاب‮»‬‭. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السياق‭ ‬الذي‭ ‬أقدمت‭ ‬فيه‭ ‬إدارة‭ ‬بوش‭ ‬على‭ ‬غزو‭ ‬أفغانستان‭ ‬واحتلالها‭ ‬في‭ ‬أكتوبر‭ ‬عام‭ ‬2001،‭ ‬ثم‭ ‬غزو‭ ‬العراق‭ ‬واحتلاله‭ ‬في‭ ‬مارس‭ ‬عام‭ ‬2003‭.‬

حين‭ ‬انغمست‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬كليا‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬حربين‭ ‬متزامنتين‭ ‬على‭ ‬جبهتي‭ ‬أفغانستان‭ ‬والعراق،‭ ‬وسعت،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬إلى‭ ‬توسيع‭ ‬حلف‭ ‬شمال‭ ‬الأطلنطي‭ (‬الناتو‭) ‬ليضم‭ ‬دول‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أعضاء‭ ‬في‭ ‬حلف‭ ‬وارسو،‭ ‬وبل‭ ‬جمهوريات‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬السابق‭ ‬نفسه‭ ‬إن‭ ‬أمكن،‭ ‬انشغلت‭ ‬روسيا‭ ‬بإعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬أوضاعها‭ ‬الداخلية،‭ ‬وحاولت‭ ‬جاهدة‭ ‬استعادة‭ ‬ما‭ ‬فقدته‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬القوة‭ ‬الشاملة‭ ‬التي‭ ‬تمتّعت‭ ‬بها‭ ‬إبّان‭ ‬الحقبة‭ ‬السوفييتية‭. ‬أما‭ ‬الصين‭ ‬فبدت‭ ‬مستغرقة‭ ‬تماما‭ ‬في‭ ‬مواصلة‭ ‬مسيرتها‭ ‬التنموية‭ ‬بأقصى‭ ‬ما‭ ‬تستطيع‭ ‬من‭ ‬سرعة‭. ‬بعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬سلكت‭ ‬فيه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬طريقا‭ ‬قد‭ ‬يُفضي‭ ‬إلى‭ ‬استنزاف‭ ‬مواردها‭ ‬وقدراتها‭ ‬والحسم‭ ‬من‭ ‬رصيدها‭ ‬ومن‭ ‬مكانتها،‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬روسيا‭ ‬والصين‭ ‬تعملان‭ ‬في‭ ‬صبر‭ ‬وهدوء‭ ‬للملمة‭ ‬عناصر‭ ‬قوتهما‭ ‬الشاملة‭ ‬استعدادا‭ ‬للولوج‭ ‬إلى‭ ‬حلبة‭ ‬المنافسة‭ ‬الفعلية‭ ‬على‭ ‬قيادة‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬حين‭ ‬تتاح‭ ‬الفرصة‭.‬

لقد‭ ‬تعمّدت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬في‭ ‬الحقب‭ ‬التي‭ ‬حرصت‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬استمرار‭ ‬هيمنتها‭ ‬المنفردة،‭ ‬إضعاف‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬والحيلولة‭ ‬دون‭ ‬إعادة‭ ‬إحياء‭ ‬نظام‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬المنصوص‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬ميثاقها‭. ‬صحيحٌ‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬تسبّبت‭ ‬في‭ ‬إصابة‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬الشلل‭ ‬التام،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬فرصة‭ ‬حقيقية‭ ‬لإعادة‭ ‬إحيائه‭ ‬لاحت‭ ‬إبّان‭ ‬أزمة‭ ‬احتلال‭ ‬العراق‭ ‬الكويت‭ ‬عام‭ ‬1990‭. ‬ففي‭ ‬أثناء‭ ‬معالجة‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة،‭ ‬والتي‭ ‬لاحت‭ ‬خلالها‭ ‬بوادر‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬حدث‭ ‬توافق‭ ‬تام‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬الكبرى‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬مثيل‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬فلم‭ ‬تلجأ‭ ‬أيٌّ‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬دائمة‭ ‬العضوية‭ ‬لاستخدام‭ ‬حقّ‭ ‬الفيتو‭ ‬لمنع‭ ‬صدور‭ ‬أيّ‭ ‬من‭ ‬القرارات‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬اتخذها‭ ‬المجلس‭ ‬إبّان‭ ‬إدارته‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة،‭ ‬بل‭ ‬وتحمّست‭ ‬جميع‭ ‬الدول‭ ‬للدعوات‭ ‬المطالبة‭ ‬آنذاك‭ ‬بالعمل‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬نظام‭ ‬عالمي‭ ‬جديد‭ ‬تلعب‭ ‬فيه‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬الدور‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬وفقا‭ ‬للمبادئ‭ ‬والقواعد‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬ميثاقها،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬والتي‭ ‬تظاهرت‭ ‬حينها‭ ‬بالموافقة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المطالب،‭ ‬استغلت‭ ‬الأزمة‭ ‬وأدارتها‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬تمكّنها‭ ‬من‭ ‬التعجيل‭ ‬بانهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬هدفها،‭ ‬حتى‭ ‬تنكّرت‭ ‬تماما‭ ‬لكل‭ ‬الدعوات‭ ‬والمطالب‭ ‬المتعلقة‭ ‬بإعادة‭ ‬إحياء‭ ‬نظام‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي،‭ ‬كما‭ ‬نص‭ ‬عليه‭ ‬الميثاق‭. ‬واليوم،‭ ‬وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلث‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬معالجة‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬أزمة‭ ‬احتلال‭ ‬الكويت،‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬المواد‭ ‬43‭ ‬و45‭ ‬و47‭ ‬من‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬غير‭ ‬مفعّلة،‭ ‬ولم‭ ‬تدخل‭ ‬حيز‭ ‬التنفيذ،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬مواد‭ ‬أساسية‭ ‬يستحيل‭ ‬تشغيل‭ ‬نظام‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬بدون‭ ‬وضعها‭ ‬موضع‭ ‬التطبيق‭.‬

يظهر‭ ‬الفحص‭ ‬المدقّق‭ ‬للسلوك‭ ‬الخارجي‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الماضية،‭ ‬وهي‭ ‬العقود‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬إصرارا‭ ‬واضحا‭ ‬على‭ ‬هيمنتها‭ ‬المنفردة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬أنها‭ ‬بذلت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬وسعها‭ ‬لإضعاف‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬وتهميش‭ ‬دورها،‭ ‬فلم‭ ‬تكتف‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بتعمّد‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬مجمّدا‭ ‬أو‭ ‬مشلولا،‭ ‬والحيلولة‭ ‬بالتالي‭ ‬دون‭ ‬دخول‭ ‬المواد‭ ‬السابق‭ ‬الإشارة‭ ‬إليها‭ ‬حيز‭ ‬التنفيذ،‭ ‬لكنها‭ ‬حرصت،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬انتقائيا‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬الأزمات‭ ‬الدولية‭. ‬فبينما‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬إبعاد‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬أزماتٍ‭ ‬تشكل‭ ‬بالفعل‭ ‬تهديدا‭ ‬خطيرا‭ ‬ومباشرا‭ ‬للسلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تتردّد‭ ‬في‭ ‬إقحامه،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬في‭ ‬أزمات‭ ‬أخرى،‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تعالج‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬هذا‭ ‬المجلس‭ ‬تماما‭. ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬بينما‭ ‬حرصت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تنفرد‭ ‬بإدارة‭ ‬كل‭ ‬الجوانب‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالصراع‭ ‬العربي‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬والقضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بنفسها‭ ‬وبشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬على‭ ‬معالجتها‭ ‬كليا‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬رغم‭ ‬علاقتها‭ ‬الوثيقة‭ ‬بقضايا‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين،‭ ‬أصرّت،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬إقحام‭ ‬المجلس‭ ‬في‭ ‬‮«‬أزمة‭ ‬لوكربي‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تعالج‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬محكمة‭ ‬العدل‭ ‬الدولية،‭ ‬وفقا‭ ‬لما‭ ‬تقضي‭ ‬به‭ ‬معاهدة‭ ‬مونتريال‭ ‬الخاصة‭ ‬بالمحافظة‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬الطيران‭ ‬المدني،‭ ‬بل‭ ‬ومارست‭ ‬ضغوطا‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬المجلس،‭ ‬لحملهم‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬قرار‭ ‬يطالب‭ ‬ليبيا‭ ‬بتسليم‭ ‬المتهمين‭ ‬في‭ ‬حادث‭ ‬إسقاط‭ ‬الطائرة‭ ‬الأمريكية‭ ‬فوق‭ ‬مدينة‭ ‬لوكربي،‭ ‬ثم‭ ‬مارست‭ ‬مرّة‭ ‬ثانية‭ ‬ضغوطا‭ ‬عليهم‭ ‬لاتخاذ‭ ‬قرار‭ ‬بفرض‭ ‬عقوباتٍ‭ ‬على‭ ‬ليبيا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتمكّن‭ ‬محكمة‭ ‬العدل‭ ‬الدولية‭ ‬من‭ ‬نظر‭ ‬القضية‭.‬

كان‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬حريصة‭ ‬حقّا‭ ‬على‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬الجهود‭ ‬الرامية‭ ‬للمحافظة‭ ‬على‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين،‭ ‬أن‭ ‬تبادر‭ ‬بحلّ‭ ‬حلف‭ ‬الناتو‭ ‬فور‭ ‬حلّ‭ ‬حلف‭ ‬وارسو‭ ‬نفسه‭ ‬عقب‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬تبنّت،‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬سياسة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬توسيع‭ ‬هذا‭ ‬الحلف‭ ‬وضمان‭ ‬تمدّده‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬دول‭ ‬شرق‭ ‬أوروبا،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬ما‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬استفزاز‭ ‬روسيا‭ ‬الاتحادية‭.‬

معنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬سياسة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الرامية‭ ‬إلى‭ ‬إضعاف‭ ‬نظام‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬المنصوص‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والإصرار‭ ‬على‭ ‬توسعة‭ ‬‮«‬الناتو‮»‬‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬تؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬الإضرار‭ ‬بمتطلّبات‭ ‬الأمن‭ ‬الوطني‭ ‬الروسي‭. ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬لم‭ ‬يتركا‭ ‬أمام‭ ‬روسيا‭ ‬الاتحادية‭ ‬من‭ ‬خيار‭ ‬آخر‭ ‬سوى‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬القوّة‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬مصالحها‭. ‬لذا‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬شعرت‭ ‬بتمكّنها‭ ‬من‭ ‬استعادة‭ ‬عافيتها،‭ ‬حتى‭ ‬قرّرت‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬التحدّيات‭ ‬التي‭ ‬يفرضها‭ ‬عليها‭ ‬الغرب‭ ‬باستخدام‭ ‬الأدوات‭ ‬الخشنة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تجلى‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬أزمات‭ ‬جورجيا‭ ‬عام‭ ‬2008،‭ ‬ثم‭ ‬أوكرانيا‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬ثم‭ ‬أوكرانيا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬عام‭ ‬2022،‭ ‬ما‭ ‬ساهم،‭ ‬بالضرورة،‭ ‬في‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬إضعاف‭ ‬نظام‭ ‬الأمن‭ ‬الجماعي‭ ‬وتهميش‭ ‬دور‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬ككل‭.‬

على‭ ‬صعيد‭ ‬آخر،‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أصبحت‭ ‬الدولة‭ ‬الأكثر‭ ‬استخداما‭ ‬للفيتو‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الماضية،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالدول‭ ‬الأخرى‭ ‬دائمة‭ ‬العضوية‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬باتت‭ ‬العقبة‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬تفعيل‭ ‬إرادة‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬وتمكين‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬أداء‭ ‬مهامّها‭ ‬ووظائفها،‭ ‬خصوصا‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالمحافظة‭ ‬على‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الدوليين‭.‬

كما‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاستخدام‭ ‬الكثيف‭ ‬للفيتو‭ ‬استهدف‭ ‬حماية‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول،‭ ‬ما‭ ‬شجّع‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬التمادي‭ ‬في‭ ‬سياستها‭ ‬الرامية‭ ‬إلى‭ ‬إجهاض‭ ‬عملية‭ ‬السلام،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تصفية‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وفرض‭ ‬شروطها‭ ‬للتسوية‭ ‬بالقوة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأطراف‭ ‬العربية‭ ‬المعنية‭. ‬بل‭ ‬لقد‭ ‬وصل‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬إقدام‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬الفيتو،‭ ‬أخيرا،‭ ‬لتعطيل‭ ‬عمل‭ ‬نظام‭ ‬الأمن‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬المبرّر‭ ‬الوحيد‭ ‬لوجود‭ ‬المؤسسات‭ ‬الأممية‭ ‬حاليا‭. ‬فقد‭ ‬انعقد‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬مؤخرا‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬أنطونيو‭ ‬جويتريس،‭ ‬بعد‭ ‬تفعيله‭ ‬المادة‭ ‬99‭ ‬من‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬للتصويت‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬قرار‭ ‬تقدّمت‭ ‬به‭ ‬الإمارات،‭ ‬يطالب‭ ‬‮«‬بالوقف‭ ‬الفوري‭ ‬لإطلاق‭ ‬النار‭ ‬لأسباب‭ ‬إنسانية،‭ ‬وبامتثال‭ ‬جميع‭ ‬الأطراف‭ ‬لالتزاماتها‭ ‬بموجب‭ ‬القانون‭ ‬الدولي،‭ ‬وبالإفراج‭ ‬الفوري‭ ‬وغير‭ ‬المشروط‭ ‬عن‭ ‬جميع‭ ‬الرهائن،‭ ‬وبضمان‭ ‬وصول‭ ‬المساعدات‭ ‬الإنسانية‮»‬‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬هي‭ ‬الدولة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬استخدمت‭ ‬‮«‬الفيتو‮»‬‭ ‬لمنع‭ ‬صدور‭ ‬هذا‭ ‬القرار،‭ ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬تؤدّي‭ ‬وظائفها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬نظام‭ ‬دولي‭ ‬تقوده‭ ‬دولة‭ ‬دائمة‭ ‬العضوية‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬تمتلك‭ ‬الأداة‭ ‬التي‭ ‬تمكّنها‭ ‬من‭ ‬منع‭ ‬صدور‭ ‬قرار‭ ‬يستهدف‭ ‬حماية‭ ‬مدنيين‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬إبادة‭ ‬جماعية‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬دولة‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭ ‬أيضا‭ ‬عضو‭ ‬في‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭.‬

لا‭ ‬أبالغ‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬إن‭ ‬استخدام‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬‮«‬الفيتو‮»‬‭ ‬لحماية‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬المارقة‭ ‬وتمكينها‭ ‬من‭ ‬إبادة‭ ‬شعب‭ ‬حرم‭ ‬من‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬مصيره‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬معنى‭ ‬واحد،‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬أحادي‭ ‬القطبية‭ ‬مات‭ ‬إكلينيكيا‭ ‬بالفعل،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬قابلا‭ ‬للحياة‭ ‬أو‭ ‬الاستمرار،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬ينتظر‭ ‬لحظة‭ ‬يوارى‭ ‬فيها‭ ‬التراب‭.‬

 

{‭ ‬استاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية

‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا