حين انهار النظام الدولي ثنائي القطبية، عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، حلّ محلّه نظام أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة منفردة. ولأن فجوة القوة الشاملة بين الدولة التي آلت إليها مقاليد الهيمنة وأيٍّ من الدول المرشّحة للمنافسة على قيادة النظام الدولي في المستقبل المنظور، بدت واسعة جدا آنذاك، فقد تصوّرت الولايات المتحدة أن الوقت قد حان لإعادة تشكيل بنية النظام الموروث عن حقبة الحرب الباردة بطريقةٍ تمكّنها من ضمان استمرار هيمنتها المنفردة عليه أطول فترة ممكنة. من هنا إقدام بعض شرائح اليمين الأمريكي المتطرّف، خصوصا التي شاركت في السلطة عقب وصول جورج دبليو بوش الابن إلى البيت الأبيض في بداية الألفية، على طرح تصوّرات محدّدة حول أنسب السبل التي تمكّن الولايات المتحدة من ضمان هيمنتها المنفردة على النظام الدولي طوال القرن الواحد والعشرين، تناولها «مشروع القرن الأميركي الجديد». وقد اعتقد هذا التيّار اليميني، وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر (2001) أن الفرصة قد لاحت لفرض الهيمنة الأميركية على العالم بقوة السلاح، تحت غطاء «الحرب الكونية على الإرهاب». كان هذا هو السياق الذي أقدمت فيه إدارة بوش على غزو أفغانستان واحتلالها في أكتوبر عام 2001، ثم غزو العراق واحتلاله في مارس عام 2003.
حين انغمست الولايات المتحدة كليا في إدارة حربين متزامنتين على جبهتي أفغانستان والعراق، وسعت، في الوقت نفسه، إلى توسيع حلف شمال الأطلنطي (الناتو) ليضم دول أوروبا الشرقية التي كانت أعضاء في حلف وارسو، وبل جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق نفسه إن أمكن، انشغلت روسيا بإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية، وحاولت جاهدة استعادة ما فقدته من عناصر القوة الشاملة التي تمتّعت بها إبّان الحقبة السوفييتية. أما الصين فبدت مستغرقة تماما في مواصلة مسيرتها التنموية بأقصى ما تستطيع من سرعة. بعبارة أخرى، يمكن القول بأنه في الوقت الذي سلكت فيه الولايات المتحدة طريقا قد يُفضي إلى استنزاف مواردها وقدراتها والحسم من رصيدها ومن مكانتها، كانت كل من روسيا والصين تعملان في صبر وهدوء للملمة عناصر قوتهما الشاملة استعدادا للولوج إلى حلبة المنافسة الفعلية على قيادة النظام الدولي، حين تتاح الفرصة.
لقد تعمّدت الولايات المتحدة، في الحقب التي حرصت فيها على استمرار هيمنتها المنفردة، إضعاف الأمم المتحدة والحيلولة دون إعادة إحياء نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في ميثاقها. صحيحٌ أن الحرب الباردة كانت قد تسبّبت في إصابة هذا النظام بما يشبه الشلل التام، غير أن فرصة حقيقية لإعادة إحيائه لاحت إبّان أزمة احتلال العراق الكويت عام 1990. ففي أثناء معالجة مجلس الأمن هذه الأزمة، والتي لاحت خلالها بوادر انتهاء الحرب الباردة، حدث توافق تام بين القوى الكبرى لم يسبق له مثيل في تاريخ الأمم المتحدة، فلم تلجأ أيٌّ من الدول دائمة العضوية لاستخدام حقّ الفيتو لمنع صدور أيّ من القرارات العديدة التي اتخذها المجلس إبّان إدارته هذه الأزمة، بل وتحمّست جميع الدول للدعوات المطالبة آنذاك بالعمل على تأسيس نظام عالمي جديد تلعب فيه الأمم المتحدة الدور الرئيسي في إدارة النظام الدولي وفقا للمبادئ والقواعد المنصوص عليها في ميثاقها، غير أن الولايات المتحدة، والتي تظاهرت حينها بالموافقة على كل هذه المطالب، استغلت الأزمة وأدارتها بطريقةٍ تمكّنها من التعجيل بانهيار الاتحاد السوفييتي. وما إن نجحت في تحقيق هدفها، حتى تنكّرت تماما لكل الدعوات والمطالب المتعلقة بإعادة إحياء نظام الأمن الجماعي، كما نص عليه الميثاق. واليوم، وبعد أكثر من ثلث قرن على معالجة مجلس الأمن أزمة احتلال الكويت، ما زالت المواد 43 و45 و47 من ميثاق الأمم المتحدة غير مفعّلة، ولم تدخل حيز التنفيذ، على الرغم من أنها مواد أساسية يستحيل تشغيل نظام الأمن الجماعي بدون وضعها موضع التطبيق.
يظهر الفحص المدقّق للسلوك الخارجي للولايات المتحدة في العقود الثلاثة الماضية، وهي العقود التي شهدت إصرارا واضحا على هيمنتها المنفردة على النظام الدولي، أنها بذلت كل ما في وسعها لإضعاف الأمم المتحدة وتهميش دورها، فلم تكتف الولايات المتحدة بتعمّد الإبقاء على نظام الأمن الجماعي مجمّدا أو مشلولا، والحيلولة بالتالي دون دخول المواد السابق الإشارة إليها حيز التنفيذ، لكنها حرصت، في الوقت نفسه، على التعامل انتقائيا مع مختلف الأزمات الدولية. فبينما سعت إلى إبعاد مجلس الأمن تماما عن التدخل في أزماتٍ تشكل بالفعل تهديدا خطيرا ومباشرا للسلم والأمن الدوليين، إلا أنها لم تتردّد في إقحامه، في الوقت نفسه، في أزمات أخرى، كان ينبغي أن تعالج خارج إطار هذا المجلس تماما. وعلى سبيل المثال، بينما حرصت الولايات المتحدة على أن تنفرد بإدارة كل الجوانب المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية بنفسها وبشكل مباشر، وبالتالي، على معالجتها كليا خارج إطار مجلس الأمن، رغم علاقتها الوثيقة بقضايا السلم والأمن الدوليين، أصرّت، في الوقت نفسه، على إقحام المجلس في «أزمة لوكربي»، والتي كان ينبغي أن تعالج في إطار محكمة العدل الدولية، وفقا لما تقضي به معاهدة مونتريال الخاصة بالمحافظة على سلامة الطيران المدني، بل ومارست ضغوطا على الدول الأعضاء في المجلس، لحملهم على اتخاذ قرار يطالب ليبيا بتسليم المتهمين في حادث إسقاط الطائرة الأمريكية فوق مدينة لوكربي، ثم مارست مرّة ثانية ضغوطا عليهم لاتخاذ قرار بفرض عقوباتٍ على ليبيا، قبل أن تتمكّن محكمة العدل الدولية من نظر القضية.
كان على الولايات المتحدة، إن كانت حريصة حقّا على المساهمة في الجهود الرامية للمحافظة على السلم والأمن الدوليين، أن تبادر بحلّ حلف الناتو فور حلّ حلف وارسو نفسه عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، غير أنها تبنّت، بدلا من ذلك، سياسة تقوم على توسيع هذا الحلف وضمان تمدّده إلى كل دول شرق أوروبا، بما في ذلك الدول التي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي، ما ساهم في استفزاز روسيا الاتحادية.
معنى ذلك أن سياسة الولايات المتحدة الرامية إلى إضعاف نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، من ناحية، والإصرار على توسعة «الناتو» بطريقةٍ تؤدّي إلى الإضرار بمتطلّبات الأمن الوطني الروسي. من ناحية أخرى، لم يتركا أمام روسيا الاتحادية من خيار آخر سوى اللجوء إلى القوّة للدفاع عن مصالحها. لذا ما إن شعرت بتمكّنها من استعادة عافيتها، حتى قرّرت العمل على مواجهة التحدّيات التي يفرضها عليها الغرب باستخدام الأدوات الخشنة، وهو ما تجلى بوضوح في أزمات جورجيا عام 2008، ثم أوكرانيا عام 2014، ثم أوكرانيا مرة أخرى عام 2022، ما ساهم، بالضرورة، في مزيد من إضعاف نظام الأمن الجماعي وتهميش دور الأمم المتحدة في النظام الدولي ككل.
على صعيد آخر، يلاحظ أن الولايات المتحدة أصبحت الدولة الأكثر استخداما للفيتو خلال العقود الثلاثة الماضية، مقارنة بالدول الأخرى دائمة العضوية في مجلس الأمن، ما يعني أنها باتت العقبة الأساسية التي تحول دون تفعيل إرادة المجتمع الدولي وتمكين الأمم المتحدة من أداء مهامّها ووظائفها، خصوصا المتعلقة بالمحافظة على السلم والأمن الدوليين.
كما يلاحظ أن هذا الاستخدام الكثيف للفيتو استهدف حماية إسرائيل في المقام الأول، ما شجّع الأخيرة على التمادي في سياستها الرامية إلى إجهاض عملية السلام، والعمل على تصفية القضية الفلسطينية وفرض شروطها للتسوية بالقوة على كل الأطراف العربية المعنية. بل لقد وصل الأمر إلى حد إقدام الولايات المتحدة على استخدام الفيتو، أخيرا، لتعطيل عمل نظام الأمن الإنساني الذي يكاد يكون هو المبرّر الوحيد لوجود المؤسسات الأممية حاليا. فقد انعقد مجلس الأمن، مؤخرا بناء على طلب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جويتريس، بعد تفعيله المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، للتصويت على مشروع قرار تقدّمت به الإمارات، يطالب «بالوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، وبامتثال جميع الأطراف لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، وبالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، وبضمان وصول المساعدات الإنسانية». غير أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي استخدمت «الفيتو» لمنع صدور هذا القرار، فكيف يمكن للأمم المتحدة أن تؤدّي وظائفها في ظل نظام دولي تقوده دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وبالتالي، تمتلك الأداة التي تمكّنها من منع صدور قرار يستهدف حماية مدنيين من عملية إبادة جماعية تقوم بها دولة أخرى هي أيضا عضو في الأمم المتحدة.
لا أبالغ إذا قلت إن استخدام الولايات المتحدة «الفيتو» لحماية دولة إسرائيل المارقة وتمكينها من إبادة شعب حرم من حقه في تقرير مصيره ليس له سوى معنى واحد، أن النظام الدولي أحادي القطبية مات إكلينيكيا بالفعل، لم يعد قابلا للحياة أو الاستمرار، وبالتالي، ينتظر لحظة يوارى فيها التراب.
{ استاذ العلوم السياسية
في جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك