شئنا ذلك أم أبينا، فقد وجدنا أنفسنا تنجرف خلف تلك الثقافة الغربية الهشة، وللأسف لم ننجرف نحن فقط وإنما سحبنا خلفنا كل أطفالنا وعوائلنا، حتى أصبح الأطفال اليوم لا يعرفون التحدث بالعربية، فإن تكلموها فإنهم يتكلمونها بصورة ركيكة، وعلى الرغم من ذلك فإن الجميع يضحك عليهم لأنهم لا يتكلمون الإنجليزية بطلاقة، وإن تكلموا الإنجليزية فإننا نفتخر بهم.
ليس ذلك فحسب وإنما مما يلفت الأنظار في شوارعنا العربية انتشار الأسماء الأجنبية في المحال التجارية والمهن، والحرف، ومحلات التصوير، والفنادق، والمقاهي، والميادين، والشوارع، حتى أصبح من النادر أن تعثر على لافتة مكتوبة بالعربية، وإن وجدتها فإنك حتمًا ستجد الكثير من الأخطاء اللغوية والإملائية فيها، وهذا مظهر من مظاهر الغزو الغربي الثقافي الأجنبي الذي يعلن عن نفسه في لافتات مكتوبة بالخط العريض، أضف إلى ذلك استخدام كثير من الألفاظ الأجنبية وتداولها وشيوعها بين الناس فبدلاً من الألفاظ العربية نجد أننا نقول مثلاً: البلكونة، بدلاً من الشرفة، واللمبة بدلاً من المصباح، ومول بدلاً من المجمع التجاري، ومن ألفاظ الترحيب هاي، وباي، وهالو، وألفاظ أخرى نستخدمها في حياتنا وعناوين المحلات التجارية، مثل: سوبر ماركت، وسنتر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه عامل من عوامل ضعف أبناء العربية، قال الرافعي: «ما ذلت لغة شعب وانحطت، إلا ذل، وكان أمره في ذهاب وإدبار». هذا على الرغم من أن لغتنا العربية ثرية بمفرداتها وليست ضيقة، وهي ليست بحاجة إلى الألفاظ الأجنبية التي تغزوها.
وهذه المظاهر انعكست على حياتنا اليومية الفكرية والثقافية وقيمنا وأخلاقنا، وحتى ملابسنا وأكلنا وكل ما نقوم به ونفكر فيه، حتى غدت صور النساء العاريات أو الرجال العرايا يتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي من غير حياء، وكذلك فإن ظاهرة الشواذ جنسيًا أصبحت من الأمور العادية جدًا، ولا تجد من يستنكرها أو حتى يشمئز منها.
كيف بلغنا هذه المرحلة؟!
بعيدًا عن نظرية المؤامرة التي أصبحت واضحة، إذ لم تعد كونها نظرية وإنما حقيقة بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، ومن خلال بحثنا ومتابعاتنا للأحداث يمكن القول إننا في الوطن العربي أُخذنا من خلال الأمور التالية:
أولًا: في مجال التعليم والتربية؛ حيث صاغ المستعمر – أيًا كان نوعه أو لونه – منهجية فكرية وأوهمنا أنه عبر اتباع المنهج التربوي والتعليمي الذي يسلكه هو أنه السبيل للتطور والحضارة، وشجعنا على تنحية الدين واللغة العربية عن مناهج المدارس والكليات والجامعات التي يتم فيها تدريس العلوم العصرية، من أجل بلوغ قمة الحضارة الحديثة، فما الدين والفكر العربي إلا مواد بالية يجب وضعها في بوتقة وحرقها في أفران عالية درجات الحرارة.
كما حَرَّضَ المستعمر العرب والمسلمين على التوسّع في عمليَّات الابتعاث للدول الغربية للالتحاق بجامعاتها؛ ليتم صناعة الأجيال العربية مصوغةً في بوتقة حضارة الغرب والشرق وثقافته، وبالتالي إعدادها لتَوَلِّي القيادة في مجتمعاتها العربية والإسلامية، لكي تقوم بالدور المطلوب منهم، وخاصة أنها تَتَوَلَّى تشويه التاريخ الإسلامي عن طريق المُقَرَّرَات الدراسيّة، وإنشاءَ مدارس غربيّة المناهج في ديارها العربية الإسلامية، وتُبْعِدَ فيها النشءَ المسلمَ عن اللغة العربية، لكي يسهل إبعادُها عن الدين الإسلامي.
علمًا بأننا لا نرفض الابتعاث إلى الجامعات الغربية أو الشرقية لدراسة العلوم والتكنولوجيا، ولكن أن نعود إلى ديارنا ونحن محملون بالفكر والثقافة والأخلاق والقيم الغريبة، بدلا من أن نفرضها على تلك المجتمعات، فالمسألة فيها نظر.
ثانيًا: في مجال اللغة العربية؛ عمل المستعمر بكل الوسائل المتنوعة والحيل الماكرة الكثيرة، على محاربة اللغة العربية باعتبارها وسيلةَ تعبير متخلفة، فإن تمت ممارسة هذه اللغة والتحدث بها في الحياة اليومية فإن تلك الشعوب سوف تتأخر عن ركب الحضارة.
عندما يذهب المرء لمقابلة عمل، فإن السؤال الأول الذي يُطرح عليه: هل تجيد اللغة الإنجليزية؟ لأن جميع المعاملات والمكاتبات والحوارات التي تدار بها المؤسسات العربية سواء الحكومية أو الخاصة معاملات تتم باللغة الإنجليزية، وحتى الاجتماعات والندوات الفكرية العربية تدار باللغة الإنجليزية.
وفي الكليات العلمية فإن الجميع – من غير استثناء – يتحدثون الإنجليزية، فإن تحدث أحدهم العربية فإنه يصبح أضحوكة بين الزملاء.
والغريب في الموضوع أن اللغة العربية تمتلك من الخصائص ما يعطيها القدرة على التعبير عن كل الأشياء، وقد كان أهلها حريصين عليها وينطقون بها باعتزاز، ويربون أولادهم على حبها وإجادتها. ولقد وجدنا أن كل الأمم تحافظ على لغتها الأم ما عدا الشعوب العربية فإنها تستنكف أن تتحدث باللغة العربية. حتى الكيان الإسرائيلي المزعوم أحيا اللغة العبرية من المقابر، وجعلها لغة رسمية له.
يقول طه جابر العلواني: «زرت اليابان ومن جملة ما لاحظته تمسك اليابانيين بلغتهم أكثر من تمسك العرب بلغتهم، ولفت نظري أثناء الندوة التي حضرتها، والتي لغتها الرسمية الإنجليزية كانوا يتدخلون باليابانية ويتركون الترجمة الفورية للمترجم يترجم كلامهم إلى الإنجليزية أو العربية في حين أن جميعهم يتكلمون الإنجليزية، ليس هذا فحسب؛ بل الأمر الذي لفت انتباهي أنهم كتبوا أسماءهم باليابانية وحدهم، وأسماء الوفود الأخرى بالإنجليزية، فعلوا ذلك دون أي شعور بالنقص والدونية». ثم يستطرد قائلاً: «ومنذ سنوات زرت إسبانيا، وطلبت مكالمة هاتفية من المقسم البريدي، وتحدثت الفرنسية، فأجابني على الفور أنت الآن في إسبانيا وعليك أن تتحدث الإسبانية فقط».
ثالثًا: في مجال الإعلام؛ اتَّخَذَ المستعمر وسائلَ الإعلام وسيلةً فعّالةً، لتنفيذ وتسريب أفكاره وقيمه وأخلاقه وثقافته إلى المجتمعات العربية الإسلامية.
ففي مجال الموسيقى فقد قلدناهم في موسيقى الراب مثلاً، وهذا النوع من الموسيقى هو تعبير عن الرفض والتمرد، فهي كلها شغب وشتم لكل شيء، وكلماتها يستحي المرء أن يلفظها حتى ولو سرًا، لأنها بصريح العبارة تحمل عبارات خادشة للحياء حتى إن إحدى هذه الأغاني تدعو الشباب إلى الاغتصاب صراحة.
ومن أساليب الغزو الإعلامي إبراز أقزام الغرب والشرق على أنهم عمالقة ومفكرون، وجعلهم مراكز ومراجع فكرية وعلمية ومنهجية كونية وعالمية وحيدة، وهي –أي تلك الشخصيات– التي تمتلك المنظومات الفكرية والإعلامية والاتصالية حتى تقنع شعوب العالم الثالث بشرعيتها وفكرها، هؤلاء الأفراد يغتصبون العقول الشابة العربية الغضة ويعيدون تشكيلها، لتصبح بطريقة ما (أرقاء أو عبيدا) فيتابعون ويقلدون من غير وعي أو تفكير، ولو كانت الأمور تقف عند هذ الحد لكانت الأمور جيدة، ولكن تلك العقول الشابة الغضة تراهم بعد فوز الفريق الأوروبي الفلاني يحملون أعلامهم ويصرخون بصورة هستيرية لأن الفريق فاز، أو تراهم يقفون في طوابير على شباك تذاكر المسارح لحضور حفل المغني أو الراقص أو الراقصة الفلانية.
وفي الأدب، ففي رواية مثل (...) حيث يستسهل المؤلف الطعن في الذات الإلهية، ولا يحمل أي توقير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتحدث بإسفاف عن العلاقات الجنسية، وللأسف فإن هذا المؤلف يتبوأ المناصب والندوات، أما من يتحدث ويؤلف عن الوحدة العربية والارتقاء بالإنسان والشرف والقيم فإنه حتى لا يدعى لمثل تلك الندوات، والسبب أن الأديب الأول ينشر ثقافة مستنيرة لتواجه الظلاميين، وأن للأديب الحق في الإبداع، وأما الآخر فهو الظلام في حد ذاته.
ومن المضحك المبكي أنه في ندوة للكتّاب والأدباء والفنانين العرب أقيمت في بعض البلاد العربية دعمًا للانتفاضة الفلسطينية منذ سنوات، قال أحد الكتّاب: «جرت مناقشة حول الصياغة الأخيرة لبيان المؤتمر ومن بين المقترحات التي عرضت مقترح قدمه أحدهم، دعا فيه إلى تصدير البيان بالبسملة وآية قرآنية، وعلى الرغم من أن الاقتراح كان سهلاً وصغيرًا، إلا أنه أثار ردود فعل واسعة وجدلاً ولغطًا وأخذ وقتًا طويلاً، وفي النهاية لم يتحقق».
رابعًا: في مجال الحياة الاجتماعية؛ تم إزالة الحواجز الاجتماعية بين المسلمين والعرب وغيرهم، وصار العربي المسلم لا يرى غضاضة في مشاركة الآخرين أساليب عيشه، بل إن بعضهم يرى أن ذلك مدعاة للفخر والمباهاة وخاصة أنه استوطن بلادهم، فأدَّى ذلك إلى رفع الحواجز، ويا ليت كانت حواجز إسمنتية أو مادية وإنما أصبح العربي المسلم يقلد الغربي في طريقة عيشهم، وأكلهم، وشربهم، ويدخل معابدهم ويحتفل بأعيادهم، ليس ذلك فحسب وإنما أصبح العربي يعيد تنظيم حياته وفقًا للفكر والمنهج الغربي، حتى ذاب في ثقافة الغرب أو الشرق.
هذه بعض الملامح لمظاهر الحياة التي نعيشها اليوم، نحن نقلد ونتبع من يحاول وحاول إذلالنا، بالأمس واليوم وفي الغد. قال العلامة عبدالرحمن ابن خلدون: «إنّما تبدأ الأمم بالهزيمة من داخلها عندما تشرع في تقليد عدوّها»، بمعنى أن الأمة المَغْزُوَّةَ غزوًا ثقافيًّا فكريًّا لا مَحَالَةَ تنهزم انهزامًا نفسيًّا وتندفع إلى تقليد الأمة الغازية القاهرة، التي تكون قد فرضت عليها تقليدَها وعاداتِها.
ونجد أنه ينبغي أن نذكر الناس بالحديث النبوي الشريف المذكور في صحيح البخاري الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟».
ولنسأل أنفسنا هذا السؤال: هل نحن مدركون لما نقوم به من إذلال أنفسنا وأجيالنا القادمة أم أننا في غفلة من ذلك؟ ألم يئن الأوان أن ندرك ذلك وأن ننسلخ من هذه المظاهر المصطنعة؟!
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك