بينما كان عام 2023 يطوي صفحاته، عقد مجلس التعاون الخليجي في 28 ديسمبر اتفاقية للتجارة الحرة مع كوريا الجنوبية -إحدى دول الرعيل الأول للنمور الآسيوية- التي يقود اقتصادها التصنيع المتوجه للتصدير، وخاصة صناعات السيارات، وبناء السفن، والإلكترونيات، والأجهزة الكهربائية، وتقع في المرتبة 13 عالميًا من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي البالغ 1.67 تريليون دولار في 2022، فيما بلغ حجم صادراتها 633 مليار دولار.
وجاء عقد الاتفاقية، بعد خمس جولات من المفاوضات، التي كانت بدايتها عام 2007، والتي عكست الرغبة المتبادلة في تعزيز الشراكة الاستراتيجية والتعاون الاقتصادي، مع ترقب أن تسهم هذه الاتفاقية في نمو التبادل التجاري في السلع والخدمات، وتعزيز التنوع الاقتصادي لدول الخليج، وتحقيق أمن الطاقة لكوريا، حيث شملت مجالات مثل: (التجارة في السلع والخدمات، والتجارة الرقمية، والمشتريات الحكومية، والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، والإجراءات الجمركية، والملكية الفكرية).
وبشكل عام، تعد الاتفاقية مع مجلس التعاون، هي الخامسة والعشرون من نوعها التي تعقدها كوريا الجنوبية، مع دول العالم، وبمقتضاها تلغي سيول، التعريفة الجمركية على 89.9% من وارداتها من دول المجلس، بما في ذلك الغاز الطبيعي المسال، وغاز البترول المسال، والمنتجات البترولية الأخرى، بينما تلغي دول المجلس، الرسوم الجمركية على 76.4% من وارداتها من كوريا الجنوبية، وعليه، فإن دول الخليج تعد بذلك خامس أكبر شريك تجاري لها، حيث بلغ حجم التجارة بينهما 102.6 مليار دولار في 2022.
وعلى وجه الخصوص، فإن هدفها هو تسهيل تدفق ودخول السلع والخدمات بين الجانبين، من خلال إزالة وتخفيض الرسوم الجمركية، وفتح السوق، وتشجيع وحماية الاستثمارات؛ ما يجعلها تعزز اتفاقية التجارة الحرة، التي عقدها المجلس مع باكستان في 29 سبتمبر 2023، في إطار رغبة العديد من دول العالم لتأكيد علاقاتها الاقتصادية مع دول الخليج- والذي جاء عقدها بعد توقف المفاوضات لنحو 14 عاما.
وتضيف اتفاقات التجارة الحرة، التي عقدها مجلس التعاون الخليجي، عام 2023، إلى أول اتفاقية تجارة حرة عقدها مع سنغافورة، والتي تم التوقيع عليها في الدوحة في ديسمبر 2008، واتفاقية التجارة الحرة، التي عقدها مع دول رابطة الأفتا، (سويسرا، والنرويج، وآيسلندا، ولختنشاين)، في 22 يوليو 2009، ودخلت حيز التنفيذ في يوليو 2015.
علاوة على ذلك، استأنفت دول مجلس التعاون، واليابان في يوليو 2023، مفاوضات عقد اتفاقية التجارة الحرة، حيث تحتل طوكيو، المركز الرابع في الصادرات الخليجية بقيمة 76.7 مليار دولار، والمرتبة الرابعة في الواردات الخليجية بقيمة 22 مليار دولار، بالإضافة إلى ذلك، تستمر مفاوضات عقد اتفاقيات للتجارة الحرة، بين المنظومة الخليجية، وكل من الصين، والهند، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، في إدراك لأهمية التجارة الخارجية في قيادة النمو الاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي.
يرتبط بهذه الأهمية، اعتماد الاقتصاد الخليجي على الصادرات النفطية، ولهذا كانت تقديرات البنك الدولي، لمعدل النمو الاقتصادي الخليجي هي 1% عام 2023، بعد أن كان قد توقع معدل نمو 2.5% في تقديراته السابقة في مايو الماضي، ليبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي الخليجي 2.3 تريليون دولار. ووفقًا لتوقعاته، يعاود النمو الاقتصادي الخليجي الارتفاع إلى 3.6% في 2024، و3.7% في 2025، ويعزى انخفاض النمو عام 2023، إلى التزام دول الخليج بتخفيضات الإنتاج، والتباطؤ الاقتصادي العالمي، خاصة الاقتصاد الصيني، فيما يعزى الارتفاع في 2024 و2025، إلى توقع تحسن أسعار النفط بنسب من 10% إلى 15%، وانخفاض أسعار الفائدة، والتضخم، وزيادة الطلب على النفط بنحو 1.2 مليون برميل يوميًا، مع توقع أن تحقق السعودية، معدل نمو 4.1% في 2024، والإمارات 3.7%، والبحرين 3.3%، وسلطنة عُمان 2.7%، والكويت 2.6%، وقطر 2.5%.
أما بالنسبة إلى أسعار النفط، فقد اتجهت إلى التراجع عام 2023، بنسبة 10% لتسجل أول انخفاض سنوي في عامين، بينما تسببت المخاوف الجيوسياسية، والتدابير العالمية لكبح جماح التضخم في تقلبات حادة بالأسعار، واتجه الخامان القياسيان (برنت، وغرب تكساس) لإنهاء العام عند أدنى مستوى منذ عام 2020. ولم تكن تخفيضات الإنتاج التي قام بها تحالف أوبك بلس، كافية لدعم الأسعار، مع انخفاض أسعار الخامين القياسيين 20% تقريبًا، مع توقع أن يؤدي انخفاض أسعار الفائدة إلى انخفاض تكلفة الاقتراض، ومن ثمّ، تعزيز الطلب على النفط في 2024، ليرتفع سعر خام برنت المتوقع إلى متوسط 84.4 دولارا للبرميل، مقارنة بمتوسط 80 دولارا عام 2023.
وفي أحدث تقاريره، توقع صندوق النقد الدولي، في أكتوبر الماضي أن تكون الأنشطة غير النفطية، المحرك الرئيسي لنمو الاقتصاد الخليجي في 2023 وسنوات لاحقة، لكنها لن تعوض بشكل كامل تراجع نمو النفط في المدى المتوسط. فيما كان قد توقع أن يبلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 1.5%، مع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للنفط؛ بسبب تخفيضات الإنتاج والأسعار، كما توقع أيضا أن يبلغ معدل نمو القطاع غير النفطي 4.3% في 2023، و4% في2023.
وارتباطًا بصعود المكانة الاقتصادية للمنظومة الخليجية؛ فازت السعودية، باستضافة معرض إكسبو2030 -أكبر المعارض الدولية- بعد أن تنافست مع كوريا الجنوبية، و إيطاليا، ليحصد ملف المملكة 119 صوتًا من الدول الأعضاء، وبالتالي يتم اختيارها مقرًا لاستضافته في عام 2030، فيما استضافت في عام 2023، عددا من المؤتمرات، والفعاليات الاقتصادية الدولية؛ أبرزها الدورة العاشرة لمؤتمر رجال الأعمال العرب والصين، والمؤتمر الاقتصادي السعودي العربي الإفريقي، وأعمال منتدى الاستثمار السعودي التركي، ومنتدى الاستثمار السعودي الكوري، ومنتدى الاستثمار السعودي الأوروبي، وأسبوع المناخ لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و فعاليات يوم السياحة العالمي، والنسخة الثامنة من أعمال مبادرة مستقبل الاستثمار.
وبينما استضافت الإمارات، مؤتمر كوب 28، فقد وضعت مخرجات هذا الحدث العالمي، تحديًا أمام الاقتصادات الخليجية، وهو التخلص التدريجي من الاعتماد على الوقود الأحفوري، وما يفرضه من ضغوط على صادرات دول الخليج من النفط والغاز، في اتجاه تحقيق الحياد الكربوني لهذه المصادر، وتنمية الإنتاج المحلي من الوقود النظيف.
وفي أكتوبر2023، وصلت الدفعة الأولى من توربينات الرياح إلى مصنع الهيدروجين في مدينة نيوم المستقبلية في شمال السعودية، والذي يوصف بأنه الأكبر في العالم. ومع اكتمال وصول التوربينات والألواح الشمسية في نهاية العام، يكون قد تم التجهيز لإنتاج حوالي 600 طن من الهيدروجين الأخضر يوميًا، فيما بلغت التكلفة الإجمالية لهذا المصنع نحو 8.4 مليارات دولار، ويصل إلى طاقته الإنتاجية القصوى بحلول 2026، وتعد كل منتجاته مخصصة للتصدير، حيث سيتم تحويل الهيدروجين الأخضر المنتج في المصنع إلى أمونيا خضراء لسهولة النقل، ثم تحويله مرة أخرى إلى هيدروجين أخضر، لاستخدامه كوقود في قطاعات تشمل؛ النقل، والصناعات الثقيلة، فيما أعلنت الرياض، في2021 استهدافها انبعاثات كربونية صفرية بحلول 2060.
علاوة على ذلك، تخطط الإمارات، لتكون مركزًا عالميًا، لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره، مع خطط للاستحواذ على 25% من حجم السوق العالمي، وسط توقعات أن تزيد قيمة الإنتاج العالمي للهيدروجين الأخضر بحلول 2030 عن تريليون دولار، وتستهدف أبوظبي، أن تصبح ضمن أعلى 10 دول منتجة ومصدرة للهيدروجين الأخضر بحلول2031، إضافة إلى مبادرتها الاستراتيجية لتحقيق الحياد الكربوني في 2050. وعليه، فقد وقعت في فبراير 2023، مذكرتي تفاهم مع شركتي بروج، وسيمنز للطاقة.
أما سلطنة عُمان، فقد وقعت عام 2023، العديد من الاتفاقات لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره للخارج، ونجحت في جذب استثمارات تقدر بـ20 مليار دولار على مدار الـ 7 سنوات المقبلة، فيما يهدف مشروعها في هذا الشأن إلى إنتاج 1.8 مليون طن من الهيدروجين الأخضر، وقد وفدت هذه الاستثمارات من 9 دول هي (بلجيكا، هولندا، المملكة المتحدة، اليابان، سنغافورة، ألمانيا، الهند، الكويت، والإمارات).
وفيما أثار منتدى قطر الاقتصادي، في يوليو 2023، تساؤلات حول تكلفة إنتاج واستثمار الوقود الأحفوري ومن سيشتريه، فإنه في الأجل القصير على الأقل، يصبح النفط والغاز، مفاتيح الاقتصاد الخليجي، ولكن مع السعي لتحقيق الحياد الكربوني، والعبرة هنا لا تتعلق بالإنتاج، ولكن بالاستهلاك.
على العموم، في حين أن دول الخليج، تعد الأكثر تأثرًا بالتحديات المناخية، لجهة ارتفاع درجات الحرارة، وارتفاع مستوى سطح البحر، وتزايد الظواهر الجوية المتطرفة والإجهاد المائي؛ فقد وضعت أهدافا طموحة، وصلت إلى حد توليد 50% من طاقتها من مصادر الطاقة المتجددة في السعودية بحلول 2030، كما أنها كلها تمضي في خطى متسارعة لاحتجاز الكربون، وتخزينه للوصول إلى تصفير الانبعاثات الكربونية، ما يمكن من استمرار الاعتماد على مصادرها من الوقود الأحفوري، ولكن بشكل آمن ضد التغير المناخي.
وفي حين التزمت دول مجلس التعاون بتنويع اقتصاداتها بعيدًا عن النفط والغاز، فإن قدرتها على تحقيق هذا التنويع تظل مرتبطة بإراداتها النفطية.
وبالفعل، فإن هذه الجهود بدأت تؤتي ثمارها من خلال استحداث فرص عمل، وزيادة تشغيل العمالة الوطنية في القطاع الخاص، وزيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك