تعلم إسرائيل وأجهزتها وكبار مسؤوليها ومحللوها وإعلاميوها أن اغتيال القائد القسامي الكبير الشيخ صالح العاروري لن يغير في واقع وضع المقاومة شيئا، فهم على غباء حساباتهم في حرب الإبادة الحالية، ينجحون أحياناً في قراءة بعضٍ من دروس التاريخ ويعلمونها جيداً.
لقد سبق أن نجحت أجهزة الاحتلال في اغتيال العشرات من القادة من حماس ومختلف الفصائل، وتاريخ الثورة الفلسطينية حافل بسجل الاغتيالات. ينجح العدو تكتيكياً بالاغتيال؟ نعم ينجح تكتيكيا يمكنه أن يعتبر هذا (نصراً)؟ بالتأكيد يمكنه فقد حقق هدفاً وضعه لنفسه. ولكنه استراتيجياً لا ينجح، فلا المقاومة تنتهي ولا بروز القيادات الجديدة كذلك. من حماس مثلاً يكاد يكون الصف القيادي الأول برمته شهيداً، من أحمد ياسين ومروراً بعبدالعزيز الرنتيسي وصلاح شحادة وصولاً إلى الجعبري، وبعدهم ظهر العديد من القيادات التي امتلكت جرأة القيام بعملية طوفان الأقصى، وقلب معالم المرحلة التاريخية هذه رأساً على عقب، والشيخ العاروري من هؤلاء، ومعه يحيى السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى وإسماعيل هنية. أما (انتصاره) هذا فيتحول إلى خزي، إذ يتقزم أمام هزيمته في القطاع، وعدم قدرته على التقدم متراً واحداً دون دفع ثمن باهظ، ناهيك عن البقاء فيه.
أما الحديث منذ أسابيع عن الترتيبات للتقدم للمرحلة الثالثة من الحرب على غزة فيجب قراءته في سياق مجريات الحرب ذاتها بكل تداخلاتها.
من الوجهة العسكرية الصرف ينبغي تأكيد الحقيقة التي يقر بها الاحتلال قبل المقاومة، وهي الفشل المدوّي في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب. ليس من هدف قد تحقق وهذا معروف تماماً، بل على العكس تشتد عمليات المقاومة قوة واتساعاً، وخاصة في شمال غزة التي دخلوها منذ أكثر من شهرين، ولم يستطيعوا السيطرة عليها، بل يتعرضون لضربات المقاومة بمختلف أشكالها يومياً.
أما الأسرى لدى المقاومة فلم تحرر (العملية العسكرية) كما يسمونها أي أسير، فيما قدرات المقاومة، وهي بالتأكيد تضررت بعض الشيء، إلا أنها مازالت قادرة على قصف تل أبيب في اليوم 85 للحرب، وتنظيم الكمائن وتفخيخ الأنفاق وقنص الجنود واقتناص الدبابات والآليات، وبالتالي عليهم إعلان الفشل رسمياً، رغم أن جنرالاتهم المتقاعدين وصحفييهم لم يبخلوا باستخدام هذا التوصيف (الفشل).
والوضع الداخلي غير المواتي نهائياً لحالة حرب يزداد تأزماً، سواء بفعل الخلافات المحتدمة داخل (فريق قرار الحرب)، أو في العلاقة مع الشارع الإسرائيلي، وخاصة مع أهالي الأسرى لدى المقاومة. لقد ازداد وضع التأزم تأزماً إضافياً في وجه نتنياهو تحديداً بعد قرار المحكمة العليا بخصوص الإبقاء على مفهوم المعقولية، بحيث بات من المنطقي تكرار السؤال، ولكن هذه المرة بقوة أكثر: هل يتجه الكيان إلى الانفجار الداخلي غير المتوقعة مداياته؟. سؤال افتراضي منطقي.
أما على الصعيد العالمي فتزداد عزلة الكيان، فليس هناك سوى سيده الأمريكي يدعم الاستمرار في الحرب، ويرفض وقف إطلاق النار، وظهر هذا في التصويت الأخير في مجلس الأمن، فيما موقف العديد من الدول الأوروبية، تحول، ولو كموقف لا يتجاوز حدود (الكلام) بالحد الأدنى، للمطالبة بوقف إطلاق النار، وجاءت مطالبة جنوب إفريقيا الصديقة بطلب فحص قيام إسرائيل بالإبادة الجماعية لدى محكمة العدل الدولية لتزيد عزلة الاحتلال أكثر فأكثر، أما الملايين في شوارع العالم فتهتف بحرية فلسطين وسقوط الاحتلال.
ضمن هذا الوضع العسكري والسياسي، والذي هو بالأساس نتاج المقاومة وإنجازاتها الميدانية، أضف إليه تأزم الوضع الاقتصادي، كما يعلن البنك المركزي الإسرائيلي تباعاً، يمكن فهم خطوة الشروع بالحملة الثالثة لما يسمونه (العملية العسكرية).
ماذا يعنون بالمرحلة الثالثة؟ مرة يقولون توقف القصف المكثف والتركيز على العمليات الخاصة والضربات المركزة، من نوع الاغتيالات وضرب مراكز محددة عن بعد، واجتياحات محدودة يتبعها الانسحاب، تقريباً كما يحدث في الضفة الآن. ومرة يقولون الانسحاب من داخل المدن باتجاه (منطقة عازلة)، تطوّق القطاع شمالاً وشرقاً بعرض كيلو أو أكثر، ومرة ثالثة يقولون الاستمرار بالعملية العسكرية من داخل (حدود إسرائيل) لا من داخل غزة، كما أوردت وسائل الإعلام نقلاً عن الجيش.
واضح أن الارتباك سيد الموقف، وتلك ميزة المهزومين الذين يتلقون ضربات يومية ويحاولون جهدهم التخلص من ذلك الواقع، بالضبط كما يتصرفون منذ السابع من أكتوبر، يرتبكون في كل قراراتهم إلا في قرارات الإبادة والإيغال في دماء شعبنا. كل عضو في مجلس الحرب ينطق بشيء يختلف عن الآخر، وكل وزير يصرح برغباته الدموية بطريقته، ولكن الأهم في كل ذلك أنهم يعانون الهزيمة الميدانية، وما تصرفهم هكذا إلا تعبيراً عن تلك الهزيمة.
أما أن يقال إن الانتقال إلى المرحلة الثالثة هو استجابة لطلب أمريكي، فهذا هو بالضبط ما يمكن اعتباره تعمية على الهزيمة، وبذات الوقت آلية نزول إسرائيل ومسؤوليها عن الشجرة، آلية تقدمها أمريكا لإنقاذ أداتهم المدللة من حماقات قراراتها.
لا استجابة للطلب الأمريكي ولا اعتبارات تكتيكية عسكرية، بل فض للاشتباك الذي يوقع الخسائر اليومية الكبيرة في صفوفهم داخل المدن والمخيمات وفي محيطهما، وانسحاب المهزوم الذي يموّه هزيمته بالحديث عن المرحلة الثالثة والاعتبارات التكتيكية العسكرية.
أما حديث نتنياهو وجالانت المتكرر عن استمرار الحرب والعملية العسكرية فهو هروب للأمام لا أكثر، علماً بأن العدوان بالتأكيد سيستمر ولكن سيأخذ أشكالاً جديدة تسعى إلى التقليل من خسائرهم الميدانية.
يمكن للمستويات السياسية والعسكرية والأمنية أن تتبجح (بالانتصار) الجديد باغتيال الشيخ العاروري، فيقدمون العملية (كصورة نصر عظيم)، فيحاولون تهدئة الشارع والمنتقدين والغاضبين لفشل حربهم وعدم تحقيق أهدافها، ولكن هذا لن ينفعهم، فمنذ شهرين وهم يقدمون صوراً عديدة لم تنقذهم من وحل رمال المقاومة في القطاع، ولم تنقذهم بالتالي من هزيمتهم في الميدان.
استشهاد المجاهد صالح العاروري مؤلم لشعبنا وخبر أليم بالتأكيد، ولكن سبقه مئات القادة ومئات الألوف من الشهداء، ومسيرة شعبنا لم تتوقف والمقاومة لم تُهزم، والطريق الذي اختطه الشهيد هو ما يتجسد يومياً في القطاع من مقاومة وصمود، وبالتالي لا دخولهم المرحلة الثالثة من حربهم، ولا اغتيالهم الشيخ المجاهد العاروري سينفعانهم وينقذانهم من هزيمتهم.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك