نعم.. حرية الرأي والفكر موجودة في الغرب، وحرية التعبير تكفلها القوانين والأنظمة الغربية، ولكن هذه الحرية لكي تكون مسموحة ومتاحة لك يجب أن تكون على حسب مقاييس ورؤية وسياسة الغرب. وهذه الحرية لكي تتمتع بها يجب أن تكون بحسب المواصفات والاشتراطات الغربية، أي في نهاية المطاف، فإن هذه الحرية ليست عامة وليست مطلقة وإنما هي مقيدة ومشروطة بالتزامك بما يفرضه الغرب عليك من مبادئ ومفاهيم وقِيِّم للحياة كما يراه هو، فإذا خرجت عن دائرة مواصفاتهم في حرية الرأي والتعبير، وخالفت أوامرهم ونواهيهم فأنت تتحول إلى إرهابي ومجرم ويجب أن تحاسب وتعاقب أمام القضاء.
فالغرب إذن يقول للناس في باب حرية الرأي والفكر والتعبير عليك أن تُفكر كما أُفكر، وتُعبِّر عن رأيك بما يتفق ما رأيي وموقفي، وأن تقول كما أقول بحسب المقياس الذي وضعته لك، وأن تكون روايتك للأحداث تتفق مع روايتي وسياساتي، أي بالضبط كما قال الطاغية والدكتاتور الأعظم فرعون للناس من حوله: «ما أُريكُم إلا ما أرى وما أهديكُم إلا سبيل الرشاد».
وهناك الكثير من الأمثلة التي تؤكد صدق ما أقول بضيق دائرة حرية التعبير في الغرب، وتحديدها بالمقاييس الغربية فقط، وانحيازها نحو معتقداتهم الخاصة، وعدم الاكتراث واحترام معتقدات ومبادئ الشعوب الأخرى، بل السماح بالتعدي عليها والإساءة إليها بحجة ومبرر حرية الرأي والتعبير.
فالكل يتذكر يوم 30 سبتمبر من عام 2005 عندما قامت صحيفة دنماركية هي «يولاندس بوستن» بنشر 12 صورة كاريكاتير مسيئة ومهينة لرسولنا الأعظم محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم بعد أسابيع قامت صحف أوروبية أخرى بإعادة نشر هذه الصور الحاقدة على نبينا، ومن بينها مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، واستمر نشر هذه الصور عدة سنوات، وتكرر كثيراً بشكلٍ متعمد في دول أوروبية عدة.
وبالرغم من أن هذه الصور جرحت مشاعر مئات الملايين من المسلمين في كل أنحاء العالم، وآلمت وأحزنت نفوسهم كثيراً، فبدأت موجة قوية واسعة الانتشار من الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية والسياسية والدبلوماسية على كافة المستويات التي تدعو إلى إيقاف نشرها، إلا أن هذه الصحف والمجلات، وبدعمٍ قوي من حكوماتهم، ومساندة غير مسبوقة من مجالسهم النيابية، تمادوا وأصروا على نشرها وإعادة طباعتها مرات عدة، وألحت على عدم إيقافها بحجة أن الدستور في بلدانهم يسمح بحرية الرأي والتعبير، كما برَّرت هذا الاستفزاز والإساءة لنبي الإسلام بأن جميع تشريعاتهم وأنظمتهم تكفل لهم مثل هذه الممارسات التعبيرية والفكرية، وأن الحكومات ليست لديها أي سلطة في أيديهم تسمح لهم بمنع نشرها.
وفي المقابل تتذكرون فَصْل رسام الكاريكاتير البريطاني المعروف «ستيف بيل» يوم 16 أكتوبر 2023، بعد أن عَمِل رساماً في صحيفة الجارديان «اليسارية» المعروفة في بريطانيا لأكثر من أربعين عاماً من الجد والعمل المُثمر والمُقدَّر، بحسب اعترافات الصحيفة نفسها. فما هو الذنب الذي ارتكبه هذا الفنان البريطاني لكي يعاقب مباشرة بإلغاء عقده وفصله من عمله ومصدر رزقه؟ فما قام به من رسمٍ كارتوني لا يبلغ كلياً مبلغ الاعتداء والإساءة والكراهية على الآخرين، ولا يتجاوز حدود حرية التعبير والرأي، كما فعلته بعض صحف أوروبا في الإساءة إلى شخصية الرسول، وازدراء الدين الإسلامي واحتقار وإهانة أكثر من مليار من المسلمين في كل دول العالم. فما قام به هو نشر رسم كارتوني يُعبر فيه عن فكره ورأيه بالتهكم من تصرفات وممارسات «بنيامين نتنياهو» رئيس وزراء الكيان الصهيوني في غزة التي تُباد جماعياً من هذا العدو الهمجي، والذي لا يختلف عليه أحد، حتى الأعداء من صهاينة أمريكا والغرب.
ولذلك فبحسب المعايير الغربية لحرية الرأي والتعبير فإن السخرية من بنتنياهو يؤشر على كراهية وبغض اليهود، وبذلك يُعد خرقاً مشهوداً لباب حرية الرأي والتعبير، كما أنه بحسب مواصفات الغرب الخاصة بحرية الفكر والرأي، فإن مثل هذا الرسم الكارتوني يعني معاداة السامية، أي بحسب معايير الغرب لحرية الرأي والتعبير فإن هذا الفنان البريطاني ارتكب جريمة كراهية اليهود ومعاداة السامية، ولذلك استناداً إلى الاشتراطات الغربية التي وضعوها بالنسبة إلى حرية الرأي والتعبير يجب أن يحاسب ويعاقب على رأيه وفعلته، فكانت العقوبة أولاً وبصورة مباشرة إلغاء نشر الرسم الكارتوني في الصحيفة كلياً، ثم إلغاء عقده ثانياً.
أما المثال الثاني فهو إرهاب الكونجرس الأمريكي، ممثلاً في لجنة التعليم بمجلس النواب لرؤساء ثلاث من الجامعات العريقة والمرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال جلسة الاستماع التاريخية غير المسبوقة التي عُقدت في 5 ديسمبر 2023. وهدف هذه الجلسة هو التهديد والتخويف، وكبح جماح حرية الرأي والتعبير في الجامعات الأمريكية، وخاصة الجامعات التي لها وزن تعليمي، وثقافي، وبحثي على مستويات الولايات كلها، إضافة إلى توجيه الرأي العام لطلبة الجامعة بحسب معايير حرية الرأي والفكر والتعبير التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، والغرب عامة. وهذه المعايير والمواصفات الأمريكية تتمثل في عدم تَحْمل أي فكر، أو رأي، أو فعل لا يتماشى مع حب اليهود والوُد للسامية وحمايتها والدفاع عنها، إضافة إلى العمل على تصحيح مسار حرية الرأي والتعبير في الجامعات الأمريكية كلها بما لا يتنافى ولا يتعارض مع معايير أمريكا.
وجاء هذا الإرهاب الفكري وقمع الرأي العام وحرية التعبير في الجامعات نتيجة للتحول الجذري الذي وقع على آراء الطلبة في الجامعات خاصة، والرأي العام الأمريكي بشكل عام حول حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة خاصة. فالمظاهرات المليونية العارمة التي غطت الساحة الأمريكية جمعاء في معظم الولايات، ألقت الرعب والخوف الشديدين في نفوس الصهاينة الأمريكيين، وكشفت عن قلقهم العميق من تحول الرأي العام الأمريكي نحو التعاطف مع القضية الفلسطينية وفهمها جيداً، وتغيير اتجاهات وسلوكيات الشعب الأمريكي ضد الصهاينة اليهود في الكيان الصهيوني. وهذا التحول الكبير غير المسبوق وغير المتوقع في المواقف يعني أن استثماراتهم الثقافية طويلة الأمد مدة عقود طويلة قد ذهبت سدى مع الريح، وتبخرت أحلامهم في «صهينة» الشعب الأمريكي وتحويله إلى كائن وديع يركع أمام الصهاينة.
فهذه الأمثلة لا تدع مجالاً للشك بأن دائرة حرية الرأي والتعبير تضيق كثيراً وتنكمش عند الغرب، وبخاصة عندما تتعلق القضية بالصهيونية، ودولة الكيان الصهيوني، فلا حرية تعبير ولا رأي، ولا تنوع فكري، ولا تعددية في المواقف والسياسات عندما نتحدث عن السامية وتوابعها، وفي مثل هذه الأيام بالتحديد فقد انتهت أسطورة حرية الرأي والتعبير عند الغرب.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك