العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

العدوان على غزة وحكمة الأمير تاليران!

بقلم: د. عبدالمنعم سعيد

الخميس ٠٤ يناير ٢٠٢٤ - 02:00

في‭ ‬مقال‭ ‬‮«‬بول‭ ‬لندن‮»‬،‭ ‬في‭ ‬دورية‭ ‬The‭ ‬Hill،‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬الكونجرس‭ ‬الأمريكي،‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬‮«‬توازن‭ ‬القوى‭ ‬ليس‭ ‬حلا‭ ‬عسكريا‮»‬،‭ ‬كتب‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬الأمير‭ ‬‮«‬تاليران‮»‬،‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬العبقري،‭ ‬الذي‭ ‬خدم‭ ‬في‭ ‬أربع‭ ‬حكومات‭ ‬فرنسية،‭ ‬في‭ ‬أخريات‭ ‬وبواكير‭ ‬القرنين‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬والتاسع‭ ‬عشر،‭ ‬لخص‭ ‬الدرس‭ ‬المهم،‭ ‬كما‭ ‬نقل‭ ‬عنه‭ ‬أنه‭ ‬قال‭ ‬به‭ ‬لسيده‭ ‬نابليون‭: ‬‮«‬إنك‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تفعل‭ ‬بسونكيات‭ ‬البنادق‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬أن‭ ‬تجلس‭ ‬عليها‮»‬‭.‬

إن‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬واليمين‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬قد‭ ‬حاولوا‭ ‬الجلوس‭ ‬على‭ ‬السونكيات‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬عاما؛‭ ‬وكان‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭ ‬وحرب‭ ‬غزة‭ ‬هي‭ ‬النتيجة‭.‬

والسونكيات‭ ‬هي‭ ‬جمع‭ ‬‮«‬سونكي‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬رأس‭ ‬الحربة،‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬يُلحق‭ ‬بالبنادق‭ ‬لكي‭ ‬يُستخدم‭ ‬بمنزلة‭ ‬الحَرْبَة‭ ‬في‭ ‬المعركة‭ ‬لطعن‭ ‬الخصوم،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تنفد‭ ‬ذخيرة‭ ‬البارود‭ ‬من‭ ‬البندقية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬محدودة،‭ ‬ويحتاج‭ ‬الجندي‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬الأداة‭ ‬التقليدية‭ ‬للحرب‭ ‬كما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬القديمة‭. ‬الترجمة‭ ‬العربية‭ ‬ربما‭ ‬تكون‭ ‬أكثر‭ ‬حكمة‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬القادة‭ ‬استخدام‭ ‬القوة‭ ‬كما‭ ‬يشاؤون‭ ‬للعنف‭ ‬والغزو‭ ‬والاحتلال‭ ‬والسيطرة‭ ‬والهيمنة؛‭ ‬ولكنهم‭ ‬سوف‭ ‬يظلون‭ ‬جالسين‭ ‬على‭ ‬‮«‬خازوق‮»‬‭ ‬القوة‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬لينتهي‭ ‬بهم‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬مواجهة‭ ‬حقيقة‭ ‬الخسران‭ ‬المبين‭.‬

نابليون‭ ‬أخذته‭ ‬القوة‭ ‬عبر‭ ‬القارة‭ ‬الأوروبية‭ ‬إلى‭ ‬غزو‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬الشرق‭ ‬لكي‭ ‬يعود‭ ‬مهزوما،‭ ‬وبعدها‭ ‬ينتهي‭ ‬به‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬هزائم‭ ‬أكبر،‭ ‬ثم‭ ‬سجنه‭ ‬وعودته‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬حاله،‭ ‬فينهزم‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬سجن‭ ‬يموت‭ ‬فيه‭.‬

‮«‬بول‭ ‬لندن‮»‬،‭ ‬كاتب‭ ‬المقال،‭ ‬ذكر‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عاشت‭ ‬على‭ ‬الخازوق‭ ‬ذاته‭ ‬في‭ ‬فيتنام،‭ ‬حيث‭ ‬عانت‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬لتكتشف‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬ليست‭ ‬حلا‭ ‬لمعضلات‭ ‬كبرى،‭ ‬كان‭ ‬ممكنا‭ ‬مواجهتها‭ ‬بالحكمة‭ ‬السياسية،‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬إدراك‭ ‬الحقائق‭ ‬الموضوعية‭ ‬في‭ ‬الواقع‭. ‬تكرر‭ ‬الخازوق‭ ‬ذاته‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬أفغانستان‭ ‬والعراق،‭ ‬وجلست‭ ‬عليه‭ ‬الإدارات‭ ‬الأمريكية‭ ‬المختلفة‭ ‬لأنها‭ ‬تصورت‭ ‬أولا‭ ‬أن‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬يمكنها‭ ‬حسم‭ ‬كل‭ ‬شيء؛‭ ‬وثانيا‭ ‬أنها‭ ‬تقف‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬التاريخ،‭ ‬حيث‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والليبرالية‭ ‬والرأسمالية‭ ‬باهرة‭ ‬ومثمرة‭. ‬نابليون‭ ‬وأقرانه‭ ‬كانوا‭ ‬يناضلون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المجد‭ ‬الشخصي‭ ‬ومجد‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬معا،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬خسر‭ ‬وخسرت‭ ‬معه‭ ‬فرنسا‭ ‬كلها‭.‬

إسرائيل‭ ‬تحت‭ ‬قيادة‭ ‬نتنياهو‭ ‬ومعه‭ ‬اليمين‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الحالي‭ ‬فشلوا‭ ‬تماما‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬توازنات‭ ‬القوى‭ ‬الجارية‭ ‬لأنهم‭ ‬اعتقدوا‭ ‬في‭ ‬تفوق‭ ‬إسرائيلي‭ ‬حاسم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الوحدة‭ ‬الداخلية‭ ‬والتفوق‭ ‬والمنعة‭ ‬التسليحية‭ ‬والتكنولوجية؛‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬إلا‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الخيبة‭ ‬والتخلف‭ ‬وعدم‭ ‬القدرة‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭.‬

ساد‭ ‬الظن‭ ‬بأن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬ردعا‮»‬‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬الكفاية،‭ ‬وأن‭ ‬الخصم،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬مجموع‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وخصوم‭ ‬آخرين‭ ‬تقودهم‭ ‬إيران،‭ ‬لديه‭ ‬من‭ ‬الوهن‭ ‬والضعف‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬يخاف‭ ‬الإقدام،‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬تهور‭ ‬وقام‭ ‬بالهجوم‭ ‬فإن‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬سوف‭ ‬تكون‭ ‬الثمن‭. ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬كانت‭ ‬النتيجة‭ ‬أعقد‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬باتت‭ ‬معلما‭ ‬للفلسطينيين،‭ ‬وعندما‭ ‬قضى‭ ‬يحيى‭ ‬السنوار‭ ‬22‭ ‬عاما‭ ‬في‭ ‬سجون‭ ‬إسرائيلية،‭ ‬فإنه‭ ‬قضاها‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬إسرائيل‭. ‬

الأمر‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬تفاصيل،‭ ‬فقد‭ ‬تغيرت‭ ‬توازنات‭ ‬القوى،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الفارق‭ ‬كما‭ ‬كان،‭ ‬وفشلت‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬7‭ ‬أكتوبر،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬طول‭ ‬مدة‭ ‬الحرب‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬التوقيتات‭ ‬التي‭ ‬وضعتها‭ ‬إسرائيل‭ ‬لنفسها‭. ‬الأمر‭ ‬كله‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬تفاديه‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬طبقت‭ ‬إسرائيل‭ ‬اتفاقيات‭ ‬أوسلو،‭ ‬وقامت‭ ‬الدولة‭ ‬الفلسطينية‭.‬

حكمة‭ ‬تاليران‭ ‬لا‭ ‬تصدق‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬نتنياهو‭ ‬وجماعته،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الجهات‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تدرك‭ ‬التناقض‭ ‬القائم‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬إعلان‭ ‬‮«‬النصر‮»‬‭ ‬العسكري‭ ‬على‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وهزيمة‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬وتهاويها؛‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬يطلبون‭ ‬وقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬الفوري‭ ‬والشامل،‭ ‬وكأنهم‭ ‬يشفقون‭ ‬على‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬الهزيمة‭ ‬والتماسك‭ ‬والصمود‭. ‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬إسرائيل‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬إدراك‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬سوف‭ ‬يظل‭ ‬باقيا‭ ‬حيا‭ ‬في‭ ‬الجوار،‭ ‬وحتى‭ ‬داخل‭ ‬إسرائيل‭ ‬نفسها؛‭ ‬فإن‭ ‬القيادة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬حقيقة‭ ‬الدولة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬واعتلاء‭ ‬المنافسة‭ ‬الدولية‭ ‬اقتصاديا‭ ‬وتكنولوجيا‭ ‬وقدراتها‭ ‬في‭ ‬التحالف‭ ‬مع‭ ‬القوى‭ ‬العالمية‭. ‬الشعبان‭ ‬الفلسطيني‭ ‬والإسرائيلي‭ ‬هما‭ ‬من‭ ‬حقائق‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهلها‭ ‬أو‭ ‬تصور‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬إخضاعها؛‭ ‬وبعد‭ ‬75‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬مولد‭ ‬الدولة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬فإن‭ ‬الثابت‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭ ‬لا‭ ‬تُقام‭ ‬كاملة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬فيما‭ ‬عدا‭ ‬ذلك‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬سوى‭ ‬سراب‭ ‬القوة،‭ ‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬متفوقة‭ ‬بالقدرات‭ ‬النووية‭ ‬أم‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬الضعف‭ ‬قوة‭ ‬الاستنزاف‭ ‬للآخر؛‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬لا‭ ‬ينضب‭ ‬وقوده‭ ‬من‭ ‬الكراهية‭ ‬والرفض‭.‬

 

{‭ ‬كاتب‭ ‬ومفكر‭ ‬مصري

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا