العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

كيف أصبحت غزّة عقدة فيتنام الإسرائيلية؟

بقلم: بيار عقيقي

الأربعاء ٠٣ يناير ٢٠٢٤ - 02:00

لا‭ ‬أحد‭ ‬يعلم‭ ‬ما‭ ‬يخبّئه‭ ‬المستقبل‭ ‬لفردٍ‭ ‬وجماعات،‭ ‬لكن‭ ‬أحيانا‭ ‬تجوز‭ ‬استعارة‭ ‬سابقة‭ ‬للبناء‭ ‬على‭ ‬وضعية‭ ‬مستقبلية،‭ ‬وفقاً‭ ‬لوقائع‭ ‬تحصل‭ ‬حالياً‭. ‬تتكثّف‭ ‬التقارير‭ ‬المتعلقّة‭ ‬بالصحة‭ ‬النفسية‭ ‬للجنود‭ ‬الإسرائيليين‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وتتضمّن‭ ‬أحداثاً‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬إطلاق‭ ‬جندي‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬خلال‭ ‬استفاقته‭ ‬من‭ ‬كابوس‭.‬

أُصيب‭ ‬بعض‭ ‬رفاق‭ ‬الجندي‭ ‬من‭ ‬نوبة‭ ‬الغضب‭ ‬هذه،‭ ‬وبرّر‭ ‬القضاء‭ ‬العسكري‭ ‬للاحتلال‭ ‬نزوته‭ ‬باعتباره‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬عَمِل‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزّة‮»‬‭. ‬وتكشف‭ ‬تقارير‭ ‬أخرى‭ ‬عن‭ ‬تحضير‭ ‬جيش‭ ‬الاحتلال‭ ‬بنىً‭ ‬تحتية‭ ‬لمعالجة‭ ‬الأزمة‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬مرّ‭ ‬ويمرّ‭ ‬بها‭ ‬عناصرُه‭ ‬في‭ ‬العدوان‭ ‬على‭ ‬غزّة،‭ ‬وسط‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬إمكانية‭ ‬خضوع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬13‭ ‬ألف‭ ‬جندي‭ ‬للمعالجة‭ ‬النفسية‭.‬

في‭ ‬الحالات‭ ‬الطبيعية،‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬العلاج‭ ‬النفسي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالصحة‭ ‬العامة‭ ‬لكل‭ ‬إنسان،‭ ‬لا‭ ‬عيب‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬خجل،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬جيش‭ ‬الاحتلال،‭ ‬لن‭ ‬يتجاوز‭ ‬العلاج‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬مع‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬فيتنام‭.‬

هناك،‭ ‬عاد‭ ‬آلاف‭ ‬الجنود‭ ‬إلى‭ ‬ديارهم،‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬انتحر‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬تورّط‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬إجرامية‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬وُضع‭ ‬في‭ ‬مستشفيات‭ ‬لإعادة‭ ‬تأهيله‭. ‬والسؤال‭ ‬الأهم‭ ‬الذي‭ ‬يُمكن‭ ‬طرحه‭: ‬‮«‬ما‭ ‬سبب‭ ‬ذهابكم‭ ‬إلى‭ ‬فيتنام؟‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬قبل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬قنابل‭ ‬النابالم‭ ‬وإبادة‭ ‬المدنيين،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الاستنفار‭ ‬الدائم‭ ‬والمقلق،‭ ‬وسط‭ ‬الحرّ‭ ‬والرطوبة،‭ ‬لمواجهي‭ ‬مقاتلي‭ ‬الخنادق‭ ‬من‭ ‬الفييتكونج‭.‬

ربما‭ ‬نصح‭ ‬المعالجون‭ ‬النفسيون‭ ‬الجنود‭ ‬الأمريكيين‭ ‬الذين‭ ‬لجأوا‭ ‬إليهم‭ ‬بالكثير،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬أسرّوا‭ ‬به‭ ‬‮«‬أنكم‭ ‬جنودٌ‭ ‬لبّيتم‭ ‬أوامر‭ ‬بلادكم‭ ‬ونيّاتكم‭ ‬حسنة،‭ ‬والباقي‭ ‬تتم‭ ‬معالجته‮»‬‭. ‬تكفي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬العبارة،‭ ‬للإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬فيتنام‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مقنعة‭ ‬للداخل‭ ‬الأمريكي،‭ ‬عكس‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ (‬1939‭ ‬ـ‭ ‬1945‭)‬،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬الهجوم‭ ‬الياباني‭ ‬على‭ ‬‮«‬بيرل‭ ‬هاربر‮»‬‭ ‬في‭ ‬هاواي،‭ ‬في‭ ‬7‭ ‬ديسمبر‭ ‬1941‭.‬

بعد‭ ‬50‭ ‬عاماً‭ ‬على‭ ‬انسحاب‭ ‬آخر‭ ‬جندي‭ ‬أمريكي‭ ‬من‭ ‬فيتنام،‭ ‬يشهد‭ ‬الإسرائيليون‭ ‬فيتنام‭ ‬خاصّة‭ ‬بهم‭. ‬سيعود‭ ‬جنودٌ‭ ‬كثيرون‭ ‬إلى‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬ومستوطناتهم‭ ‬في‭ ‬وقتٍ‭ ‬ما‭. ‬سيواجهون‭ ‬مشكلاتٍ‭ ‬فردية‭ ‬وجماعية‭. ‬سيتورّط‭ ‬بعضُهم‭ ‬في‭ ‬شجاراتٍ‭ ‬وجرائم‭ ‬قتل‭. ‬ستُنتج‭ ‬وثائقيات‭ ‬وأفلام‭ ‬عن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الجنود،‭ ‬وسيولد‭ ‬جيل‭ ‬إسرائيلي‭ ‬يتحدّث‭ ‬عن‭ ‬عبثية‭ ‬الحروب‭ ‬عموماً،‭ ‬فكيف‭ ‬بالاعتداءات‭ ‬والإبادات‭ ‬والمجازر‭.‬

والأهم‭ ‬أنه‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الفيتناميون‭ ‬حاضرين‭ ‬حين‭ ‬انسحب‭ ‬الأمريكيون،‭ ‬ويستمرّ‭ ‬حضورهم‭ ‬في‭ ‬بلادهم،‭ ‬مذكّرين،‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما،‭ ‬بعبثية‭ ‬أمريكية‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬فإن‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬لن‭ ‬يرحلوا‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مكان،‭ ‬وسيبقون‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الإسرائيليين،‭ ‬مجتمعا‭ ‬تعرّض‭ ‬لمجازر‭ ‬ومذابح‭ ‬وظلّ‭ ‬موجوداً،‭ ‬لا‭ ‬يُمّحى‭ ‬ولا‭ ‬يندثر‭.‬

سيكتشف‭ ‬الاحتلال‭ ‬بنفسه‭ ‬أنه‭ ‬مهما‭ ‬ارتكب،‭ ‬ومهما‭ ‬اعتُبرت‭ ‬أفعال‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬وغيرها‭ ‬خاطئة،‭ ‬فإن‭ ‬الثابت‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬محو‭ ‬شعب‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬ولا‭ ‬التاريخ‭. ‬وهذه‭ ‬الفيتنام‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬ستُخلّد‭ ‬في‭ ‬عقولهم‭ ‬وفي‭ ‬موروثات‭ ‬الإسرائيليين‭ ‬أجيالاً‭ ‬طويلة‭.‬

ألا‭ ‬يستذكرون‭ ‬ماسادا‭ ‬ومحنة‭ ‬السبي‭ ‬إلى‭ ‬بابل‭ ‬والخروج‭ ‬إلى‭ ‬مصر؟‭ ‬ستدخل‭ ‬غزّة‭ ‬وجرائمهم‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬حمضهم‭ ‬النووي‭. ‬جيل‭ ‬جنودهم‭ ‬هذا‭ ‬يخوض‭ ‬أول‭ ‬حربٍ‭ ‬برّية‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬منذ‭ ‬عقود،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الوزير‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الحرب‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬بيني‭ ‬جانتس‭ ‬لم‭ ‬يتأخّر‭ ‬في‭ ‬اعتبار‭ ‬العدوان‭ ‬على‭ ‬غزّة‭ ‬أنه‭ ‬الأصعب‭ ‬في‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬إسرائيل‮»‬‭. ‬

سيأتي‭ ‬يوم‭ ‬وينسحب‭ ‬الاحتلال‭ ‬من‭ ‬غزّة،‭ ‬شأن‭ ‬كل‭ ‬احتلال‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬إعمار‭ ‬القطاع‭ ‬وشفاء‭ ‬نفوس‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬فيها،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الانسحاب‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬سيترافق‭ ‬مع‭ ‬اجتياح‭ ‬أبدي‭ ‬لغزّة‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬الاحتلال‭ ‬وأنفاسه‭.‬

لن‭ ‬تخرج‭ ‬غزّة‭ ‬من‭ ‬الدواخل‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬وستدفع‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬كاملة‭ ‬لمجتمع‭ ‬اعتقد‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬أنه‭ ‬محصّنٌ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬لكن‭ ‬جنوده‭ ‬وشعبه‭ ‬غير‭ ‬محصّنين‭. ‬يكفي‭ ‬حديث‭ ‬الاحتلال‭ ‬مراراً‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إصاباتٍ‭ ‬بالهلع‮»‬‭. ‬لا‭ ‬يُمكن‭ ‬لمجتمع‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬يدوم،‭ ‬أمام‭ ‬شعبٍ‭ ‬يخسر‭ ‬أحبّاءه‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭. ‬ومثل‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬تستولد‭ ‬وحوشاً‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬فيتنام‭ ‬قصّة‭ ‬صغيرة‭ ‬أمام‭ ‬حكايتهم‭.‬

{ كاتب‭ ‬وصحفي‭ ‬من‭ ‬لبنان‭ ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا