لا أحد يعلم ما يخبّئه المستقبل لفردٍ وجماعات، لكن أحيانا تجوز استعارة سابقة للبناء على وضعية مستقبلية، وفقاً لوقائع تحصل حالياً. تتكثّف التقارير المتعلقّة بالصحة النفسية للجنود الإسرائيليين في الداخل الإسرائيلي، وتتضمّن أحداثاً من قبيل إطلاق جندي النار على جدار خلال استفاقته من كابوس.
أُصيب بعض رفاق الجندي من نوبة الغضب هذه، وبرّر القضاء العسكري للاحتلال نزوته باعتباره أنه «عَمِل في قطاع غزّة». وتكشف تقارير أخرى عن تحضير جيش الاحتلال بنىً تحتية لمعالجة الأزمة النفسية التي مرّ ويمرّ بها عناصرُه في العدوان على غزّة، وسط حديث عن إمكانية خضوع أكثر من 13 ألف جندي للمعالجة النفسية.
في الحالات الطبيعية، التعاطي مع العلاج النفسي جزء من الاهتمام بالصحة العامة لكل إنسان، لا عيب فيه ولا خجل، غير أنه في حالة جيش الاحتلال، لن يتجاوز العلاج ما حصل في السابق مع الجيش الأمريكي في فيتنام.
هناك، عاد آلاف الجنود إلى ديارهم، منهم من انتحر ومنهم من تورّط في أعمال إجرامية ومنهم من وُضع في مستشفيات لإعادة تأهيله. والسؤال الأهم الذي يُمكن طرحه: «ما سبب ذهابكم إلى فيتنام؟»، وذلك قبل الحديث عن قنابل النابالم وإبادة المدنيين، فضلاً عن الاستنفار الدائم والمقلق، وسط الحرّ والرطوبة، لمواجهي مقاتلي الخنادق من الفييتكونج.
ربما نصح المعالجون النفسيون الجنود الأمريكيين الذين لجأوا إليهم بالكثير، غير أن أهم ما قد أسرّوا به «أنكم جنودٌ لبّيتم أوامر بلادكم ونيّاتكم حسنة، والباقي تتم معالجته». تكفي مثل هذه العبارة، للإشارة إلى أن الحرب الأمريكية في فيتنام لم تكن مقنعة للداخل الأمريكي، عكس الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وخصوصاً بعد الهجوم الياباني على «بيرل هاربر» في هاواي، في 7 ديسمبر 1941.
بعد 50 عاماً على انسحاب آخر جندي أمريكي من فيتنام، يشهد الإسرائيليون فيتنام خاصّة بهم. سيعود جنودٌ كثيرون إلى مجتمعاتهم ومستوطناتهم في وقتٍ ما. سيواجهون مشكلاتٍ فردية وجماعية. سيتورّط بعضُهم في شجاراتٍ وجرائم قتل. ستُنتج وثائقيات وأفلام عن هؤلاء الجنود، وسيولد جيل إسرائيلي يتحدّث عن عبثية الحروب عموماً، فكيف بالاعتداءات والإبادات والمجازر.
والأهم أنه كما كان الفيتناميون حاضرين حين انسحب الأمريكيون، ويستمرّ حضورهم في بلادهم، مذكّرين، في مكان ما، بعبثية أمريكية في جنوب شرق آسيا، فإن الفلسطينيين لن يرحلوا إلى أي مكان، وسيبقون في عيون الإسرائيليين، مجتمعا تعرّض لمجازر ومذابح وظلّ موجوداً، لا يُمّحى ولا يندثر.
سيكتشف الاحتلال بنفسه أنه مهما ارتكب، ومهما اعتُبرت أفعال «حماس» وغيرها خاطئة، فإن الثابت هو عدم القدرة على محو شعب من الوجود ولا التاريخ. وهذه الفيتنام الإسرائيلية ستُخلّد في عقولهم وفي موروثات الإسرائيليين أجيالاً طويلة.
ألا يستذكرون ماسادا ومحنة السبي إلى بابل والخروج إلى مصر؟ ستدخل غزّة وجرائمهم فيها في عمق حمضهم النووي. جيل جنودهم هذا يخوض أول حربٍ برّية من هذا النوع منذ عقود، حتى أن الوزير في مجلس الحرب الإسرائيلي بيني جانتس لم يتأخّر في اعتبار العدوان على غزّة أنه الأصعب في «تاريخ إسرائيل».
سيأتي يوم وينسحب الاحتلال من غزّة، شأن كل احتلال عبر التاريخ، وعلى الرغم من الحاجة إلى فترة طويلة من إعادة إعمار القطاع وشفاء نفوس الفلسطينيين فيها، إلا أن الانسحاب الإسرائيلي سيترافق مع اجتياح أبدي لغزّة في عقول الاحتلال وأنفاسه.
لن تخرج غزّة من الدواخل الإسرائيلية، وستدفع إلى إعادة صياغة كاملة لمجتمع اعتقد ذات يوم أنه محصّنٌ من كل شيء، لكن جنوده وشعبه غير محصّنين. يكفي حديث الاحتلال مراراً عن «إصاباتٍ بالهلع». لا يُمكن لمجتمع مثل هذا أن يدوم، أمام شعبٍ يخسر أحبّاءه كل لحظة. ومثل هذه اللحظات تستولد وحوشاً تجعل من فيتنام قصّة صغيرة أمام حكايتهم.
{ كاتب وصحفي من لبنان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك