يصعب الحديث عن هدنة ثانية في الحرب على غزة، كأنها قد تعقد غدا. ويصعب استبعاد الفكرة كلها، كأنها لن تعقد أبدا.
السيناريوهان ماثلان بذات القدر تحت الأفق السياسي المشتعل بالنيران على جميع جبهات الاشتباك داخل القطاع وخارجه.
هناك ما يستدعي التوصل إلى هدنة ثانية بأقرب وقت ممكن، يجري خلالها تبادل أسرى ورهائن وإدخال مساعدات إنسانية أكبر.
وهناك في الوقت نفسه ما يدعو إلى تخفيض مستوى الرهانات في التوصل إليها، حيث تتصادم الحسابات في النظر إلى طبيعتها وحدودها وما بعدها.
وفق الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، الذي يتبنى مشروع الهدنة الثانية، فإن المفاوضات حولها «جادة للغاية» قبل أن يعود بعد أيام ليقول: «إنها ليست قريبة.. ولكننا نضغط».
الضيق الدولي المتصاعد حاضر بقوة في خلفية الاتصالات المعلنة وغير المعلنة في مجلس الأمن وخارجه لوقف إطلاق النار، لكنه مقيد بحق النقض الأمريكي لأي مشروع قرار ينهي أبشع مأساة إنسانية في العصور الحديثة.
إنه طلب وقف إطلاق نار مستدام، لا هدنة ثانية تعقبها عمليات عسكرية جديدة تسقط عشرات آلاف أخرى من الضحايا المدنيين، كأنها وقت مستقطع لمواصلة حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزة.
بأثر التظاهرات والاحتجاجات الواسعة في الغرب، وداخل الولايات المتحدة نفسها، بدأ التحالف الغربي يتشقق من حول واشنطن الداعمة بصورة مطلقة لإسرائيل وعملياتها العسكرية حتى تحقق هدفيها الرئيسيين: اجتثاث «حماس» وإعادة الأسرى والرهائن بأقل كلفة ممكنة.
فيما هو لافت أن أكثر دولتين غربيتين تماهيا مع السياسة الأمريكية، بريطانيا وألمانيا، يدعوان الآن دون مواربة إلى وقف نار مستدام في غزة دون أن يكون عند كليهما أي تصور لليوم التالي باستثناء الكلام العام عن «حل الدولتين».
أمريكا تتبنى الكلام العام نفسه، لكنها تعمل لإطالة أمد الحرب.
فكرة «الهدنة الثانية» تدخل ضمن التصور الاستراتيجي الأمريكي لإدارة الحرب بصورة أكثر كفاءة مما أبدته إسرائيل في حربها على غزة.
من ركائز ذلك التصور: إطلاق سراح أكبر عدد ممكن من الأسرى والرهائن الإسرائيليين، ووضع جدول زمني لإنهاء العمليات العسكرية، وتبني «الضربات النوعية طويلة المدى» لمنع عودة «حماس» إلى السلطة في غزة بعدما ثبت أن اجتثاثها شبه مستحيل.
يدخل من ضمن ذلك التصور تخفيض وطأة المعاناة الإنسانية على سكان القطاع، التي استفزت قطاعات واسعة من الرأي العام الأمريكي، وخفضت من فرص «بايدن» في حصد نتائج الانتخابات الرئاسية، التي اقتربت مواعيدها.
بقوة الحقائق فإن لواشنطن مصلحة رئيسية في إتمام صفقة الهدنة الثانية لتخفيض مستوى الضغط الدولي عليها وإعادة ترتيب أوراقها وفق الحقائق المستجدة. بأي نظر في الحقائق السياسية والعسكرية المتداخلة فإن أي هدنة متوقعة سوف تكون جزئية ومحدودة.
إسرائيليا: وقف إطلاق النار مستبعد بصورة كلية، إذ قد ينظر إليه على أنه نوع من الاعتراف بالهزيمة طالما لم تكن هناك علامة نصر واحدة.
لذلك تداعيات وحسابات جديدة تضرب أولا ــ في تصورها لأمنها وحدود قوتها وقدرتها المتخيلة على فرض هيبة جيشها بالمنطقة، كما فرص تمدد نفوذها الإقليمي.
وتضرب ثانيا ــ في بنيتها السياسية التي يهيمن عليها اليمين المتطرف وخسارة حكومة «بنيامين نتنياهو» أية فرصة للبقاء في الحكم.
كما قد يعني، وهذا ما لا تريده واشنطن أيضا، تعاظم دور «حماس» في الحياة السياسية الفلسطينية، على ما توقعت محطة الـ«سي. إن. إن» الأمريكية الإخبارية.
تكاد تستحيل أية موافقة إسرائيلية على هدنة ثانية تتجاوز استعادة أسراها ورهائنها المحتجزين في غزة.
«التفاوض تحت النيران». تلك استراتيجيتها للتوصل إلى هدنة ثانية، حتى لا يكون أمام «حماس» فرص ممكنة للتشدد في طلباتها وشروطها.
تحت ضغوط الداخل الإسرائيلي المتصاعدة يصعب على «نتنياهو» تجاهل الملف المزعج.
يطلب صفقة تبادل كاملة للأسرى والرهائن حتى يتخفف من وطأة ذلك الملف على التماسك الداخلي حيث زادت ضغوط التظاهر والاحتجاج من أسرهم، الذين أعربوا بمواجهته على عدم الثقة في تعهداته. «إنها حرب نتنياهو».. «إنه لا يريد عودة أبنائنا».
هكذا ارتفعت الأصوات الاحتجاجية داخل إسرائيل، وعلى صفحات جرائدها.
وقد كان مقتل ثلاثة من جنودها بنيران صديقة تعبيرا عن فشل لا يمكن إخفاؤه وداعيا بالوقت نفسه إلى طلب وقف إطلاق النار فورا وعقد صفقة شاملة لتبادل الأسرى وفق مبدأ «الكل مقابل الكل».
ثم أكد مقتل ثلاثة جنود آخرين بنيران الجيش الإسرائيلي المخاوف والمطالب نفسها.
«أمام حماس أحد خيارين: الاستسلام أو الموت». كان ذلك التصريح الذي أطلقه «نتنياهو» تعبيرا عن أزمته المستحكمة، فهو لا يتصور أن تنتهي الحرب دون علامة نصر، يريد تمديدها لأشهر أخرى، لكن لا أحد في العالم مستعد أن يضفي عليها أية مشروعية منتحلة بادعاء إنها دفاع عن النفس!
هو في حاجة ماسة إلى الدعم الأمريكي المطلق، وإلا وجد نفسه وحيدا ومعزولا أمام العالم إذا ما صدر قرار أممي بوقف إطلاق النار. أقل الأضرار بالنسبة إليه أن يمضي إلى هدنة ثانية محدودة بأقل خسائر ممكنة. وملف الأسرى ليس أولوية لديه، لكنه مجبر عليه.
بالمقابل المقاومة الفلسطينية مستعدة لـ«هدنة ثانية مشروطة» تسمح بتخفيف المعاناة الإنسانية غير المحتملة عن أهالي غزة بإدخال معونات ومساعدات مستدامة يحتاجونها للبقاء على قيد الحياة.
فلسطينيا: ليست هناك صفقة كاملة لتبادل الأسرى قبل وقف إطلاق نار مستدام. حدود الصفقة واشتراطاتها جوهر التفاوض.
إذا ما خسرت المقاومة تلك الورقة الرئيسية بلا ثمن سياسي حقيقي أوسع من الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية فإن ذلك قد يفضي إلى توسع الحرب لا إيقافها، وتغول آلة القتل لا منعها. إنه الموقف الحاكم، الذي تتمترس خلفه المقاومة الفلسطينية، التي تخشى من خسارة «ورقة الأسرى والرهائن» قبل وقف إطلاق النار فيستباح القطاع تقتيلا وترويعا كما لم يحدث حتى الآن.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك