لا شك أن حدثا بحجم «طوفان الأقصى» سيكون له تداعيات كبيرة على المستوى الجيوسياسي الإقليمي على الأقل. ومع أنه من المبكر التكهن بالتداعيات النهائية لهذه الحرب على المنطقة والعالم، إلا أنه سيكون لها آثار خطيرة على المستويين الإقليمي والعالمي.
بداية، لا بد من النظر بشكل سريع إلى الظروف الدولية القائمة في لحظة انفجار «طوفان الأقصى». أمريكا كدولة في حالة انكفاء وتراجع، لكن من الخطأ التسرع بالقول إننا على بعد خطوات من انهيار الإمبراطورية الأمريكية ومن زوال الأحادية في النظام الدولي.
فما زالت الولايات المتحدة تملك المركز المالي الأول في العالم، وهي القوة العسكرية والاقتصادية المهيمنة حتى يومنا هذا. بالمقابل، أوروبا شاخت وهرمت، والقوى الصاعدة التي يُعوَّل عليها في وجه الهيمنة الأمريكية (روسيا، الصين وغيرها) لم تثبت حتى اليوم قدرتها سوى على مواجهة محدودة لهذه الهيمنة.
في منطقتنا، هناك محاولة صهيونية لإماتة القضية الفلسطينية مقابل تقديم سردية مزيفة حول ديموقراطية دولة إسرائيل وأهمية إقامة السلام معها! لكن ثبت بشكل لا لبس فيه فشل مشاريع السلام مع العدو الصهيوني.
لقد فتحت عملية 7 أكتوبر الباب لإعادة رسم المنطقة من جديد بصورة تُحدّدها شعوب المنطقة وليس القوى الاستعمارية، تكون فيها القضية الفلسطينية هي المحور.
لقد أعاد «طوفان الأقصى» إلى الواجهة القضية الفلسطينية، إقليمياً ودولياً. من هنا، لا بد من الاعتراف بأن المقاومة المسلحة هي الطريق الوحيد للوصول إلى الحق الفلسطيني والعربي. وألا سبيل سوى للقوة لانتزاع مكانة في النظام العالمي، ولأخذ مصالح شعوب المنطقة بالاعتبار في أي نظام إقليمي أو ترتيبات أمنية تخص المنطقة.
لقد زُرع الكيان الصهيوني في منطقتنا ليكون أداة ووكيلا إقليميا. وجاءت أحداث 7 أكتوبر لتطرح أسئلة حول قدرة هذا الكيان على لعب هذا الدور الإقليمي في ظل تراجع الولايات المتحدة عن الوجود في منطقة الشرق الأوسط. ولا شك أن الكيان الصهيوني والصهيونية اليوم هما إزاء أزمة وجودية. وهو ما يفسّر تصرّفها بهذه الوحشية المفرطة التي هي سيف ذو حدّين: من جهة هي مؤلمة جداً للشعب الفلسطيني لكنها ـ أي الوحشية ـ ترتدّ على مرتكبيها بقلب السردية التي عملوا طويلاً على بنائها: أنهم الشعب الحضاري الديموقراطي الحافظ لحقوق الإنسان!
من المبكر التنبؤ بما سيستجد من تحولات في النظام الدولي بعد انتهاء الحرب على غزة، وهل سيكون لدى شعوب المنطقة الوعي والقدرة للضغط من أجل الخروج من دائرة التضامن اللفظي مع الشعب الفلسطيني إلى الضغط على إسرائيل وعلى راعيها وحاميها؟ إن صعود الصين من جهة وطموح موسكو بأن تصبح قوة فاعلة في صنع حقبة دولية جديدة من جهة أخرى، يجب أن يُشكّلا فرصة لتوازن دولي يمكن استغلاله والاستفادة منه.
تشي معظم المؤشرات حتى تاريخنا هذا بخروج المقاومة الفلسطينية منتصرة برغم الثمن الباهظ الذي تؤدّيه غزة ويدفعه المدنيون الفلسطينيون. ربما تضطر الولايات المتحدة الأمريكية للقبول بتسويات في هذه المنطقة بشكل عاجل وليس تأجيلها إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في خريف عام 2024.
ثمة صعوبة كبيرة في التقاط هذه اللحظة الإقليمية والدولية المصيرية لتوحيد النظام الإقليمي أو لقيام مشروع سياسي موحّد لدول المنطقة، حيث إن الخلافات القائمة حالياً أثرت على مشاريع التنمية وجعلت شعوبها رهن مشاريع يضعها الاستعمار المتصهين بدءاً من الشرق الأوسط الجديد وصفقة القرن.
هل يُمكن التعويل على وعي شعوب المنطقة في هذا المجال؟ فإقامة نظام إقليمي جديد يجب أن يبنى على أسس عديدة منها التركيز على الهوية الذاتية لشعوب المنطقة، والبحث عن المشتركات ومواجهة تغوّل العولمة الاستعمارية التي تهدف إلى تذويب الخصوصيات الحضارية ضمن حضارة واحدة جوفاء من القيم الإنسانية تسيطر عليها الولايات المتحدة الأمريكية.
معنى ذلك وجود مصلحة في اتحاد شعوب المنطقة ضد الإملاءات الأمريكية مراعاةً لمصالح إسرائيل، وأيضاً لا بد من تأكيد أهمية وعي الشعوب لحقوقها في السيادة على ثرواتها ومصالحها، وضرورة التخلص من التبعية.
ولعل البداية تكون بمقاربة الاختلالات التي تعتري البنيان الداخلي للدول داخل الإقليم، والتي تمنع التلاحم الداخلي، والاتفاق على كيفية إدارة الحكم في الدولة وعلى اتجاهات التحالفات الخارجية والنظرة إلى إسرائيل وكيفية التعامل معها.
ومن الضروري تسخيف ونبذ كل محاولات اللعب على التناقضات الدينية والعرقية والوقوف بوجه مشاريع العولمة المتصهينة، من خلال التحالف مع القوى الصاعدة العاملة من أجل تعددية قطبية، وبالتالي تشجيع تعدد التحالفات الدولية وتطوير القدرات العسكرية والأمنية ودعم الحركات المقاومة للمشروع الصهيوني.
على الشعوب أن تدفع دولها لتذليل الخلافات حفاظاً على المصالح المشتركة، وإيجاد صيغ قابلة لضمّ مختلف الاتجاهات، على أسس ديموقراطية حقيقية، بما يؤدي إلى رفع الغبن وتعزيز المشاركة فلا تكون فيها العلمانية رافضة للمعتقد الديني، ولا يكون الدين عدواً للعلمانية. فلن يكتمل أي تكامل إقليمي إن لم يكن اقتصادياً بالإضافة إلى الجانب السياسي.
من هنا، تتبدى أهمية العمل على تبادل الخبرات والطاقات والثروات، ووضع خطط اقتصادية متكاملة، والاستفادة من الموقع الجيو-استراتيجي للمنطقة وتعزيز وتطوير العلوم والتكنولوجيا لرفع المستوى الثقافي والتعليمي والعلمي للقضاء على كل أسباب التخلف التي تعاني منها بعض هذه المجتمعات.
لقد فتحت عملية 7 أكتوبر الباب لإعادة رسم المنطقة من جديد بصورة تُحدّدها شعوب المنطقة وليس القوى الاستعمارية، تكون فيها القضية الفلسطينية هي المحور، لأن لا استقرار ولا نظام إقليمي جديد طالما استمر الكيان الصهيوني مزروعاً في قلب المنطقة، وطالما أن الصهيونية حاضرة بكل ثقلها وبكل تلاوينها لحماية هذا الكيان.
لقد كشفت جرائم الإبادة والتطهير العرقي التي حصلت في غزة عن الوجه الحقيقي للاستعمار الذي يُمكنه ارتكاب أبشع المجازر عند المساس بمصالحه، بدليل دماء أطفال غزة الصارخة؛ الدماء التي تُبشّر بولادة تاريخ فلسطيني وعربي جديد.
{ أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك