لم يكن خافيا في العدوان على غزة كيف استند نتنياهو في خطاباته إلى التوراة، وكيف استخدم نصوصها كمبرر لقتل المدنيين، وكيف استذكر «العماليق»، وهم سكان جنوب غرب فلسطين الأصليون، واستذكر الوصية التوراتية الداعية إلى قتلهم.
عندما قررت الحركة الصهيونية إنشاء «دولة إسرائيل»، دعت إلى إجراء 3 تحولات رئيسية؛ أولاً الانتقال من المستوطنة إلى مركز المدينة، وثانياً التحول من العصابات إلى الجيش المنظم، وثالثاً التحول من حكم «الكنيس» إلى حكم «الكنيست».
قبل نشأة كيان الاحتلال، كانت الجمعيات اليهودية عبارة عن كتل مشتتة في دول العالم عامة، وفي الدول الأوروبية تحديداً، وبدأت فكرة الاستيطان تلوح في أفق الحركة الصهيونية بعد ظهور حركة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر في أوروبا، حين بدأ أصحاب المذهب البروتستانتي يروجون لفكرة طرد اليهود لأنهم لا ينتمون إلى النسيج الحضاري الغربي، وكانت خطة التاجر الدنماركي أوليفربولي عام 1695 من أولى المطالب لتحقيق هذه الفكرة، قبل أن ينادي بها الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت أثناء حملته على مصر وبلاد الشام.
ومنذ عام 1882، تعرضت فلسطين لعدة موجات من الهجرات الصهيونية، ليصل عدد المستوطنين عام 1903 إلى نحو 215 ألف مستوطن موزعين على مجموعة مستوطنات مدنية وأخرى زراعية، ونظراً إلى أن نشأة الدولة بحاجة إلى مدينة، فقد تركزت الدعوة على ضرورة الانتقال من المستوطنات إلى مراكز المدن.
ولتعزيز فكرة الاستيطان، أنشأت الحركة الصهيونية عصابات عسكرية كان أبرزها «الهاجاناه»، وهي منظمة عسكرية استيطانية أخذت على عاتقها طرد الفلسطينيين من أراضيهم وتوطين المهاجرين اليهود مكانهم، وارتكبت في سبيل ذلك العديد من الانتهاكات والاعتداءات والأعمال الإرهابية والجرائم، ومن ثم أنشأت في فلسطين نقاطاً عسكرية لجمع الذخيرة والسلاح وتدريب الأفراد المنضمين إليها من فتيان وفتيات على عمليات الهجوم على المواطنين وحماية المستوطنات.
ولتنظيم عملهم، نادى زعماء الصهيونية بضرورة تحويلهم إلى نواة جيش منظم وموحد، فتطورت «الهاغاناه» منذ ثلاثينيات القرن الماضي من مليشيات إرهابية غير منظمة إلى جيش كامل، ثم قام رئيس الوزراء بن جوريون بتحويلها إلى ما يطبق عليه «جيش الدفاع الإسرائيلي» عام 1948.
على الرغم من أن الدين اليهودي هو الرابط الوحيد الذي كان يجمع اليهود المشتتين في العالم، فإنَّ الصهيونية، وفي مؤتمرها الأول في بازل، حددت هدفها المستقبلي بكل وضوح، ذاكرة أن غاية الصهيونية هي إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين يحظى باعتراف العالم ويضمنه القانون العام. ولتحقيق هذه الغاية، ظهرت فكرة إنشاء سلطة تشريعية سياسية تكون بمنزلة برلمان لدولة «إسرائيل» يتولى مهمة سن قوانين وأنظمة سياسية.
وقد عقد «المجلس التأسيسي» يوم 14 فبراير 1949 جلسته الأولى التي انتخب فيها يوسف شبرينتساك رئيساً. وبعد يومين، صادق على تغيير مسماه إلى الكنيست.
هذه التغيرات الثلاثة أسهمت بشكل مباشر في إنشاء «إسرائيل» التي تعاقبت عليها 37 حكومة، كان آخرها تلك التي تشكلت مع نهاية عام 2022، والتي تعدّ الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الكيان. وقد جاء تشكيلها بعد 4 سنوات من أزمة سياسية داخلية أدلى خلالها الإسرائيليون بأصواتهم في 5 جولات انتخابية جرت في أبريل 2019، سبتمبر 2019، مارس 2020، مارس 2021، ومن ثم نوفمبر 2022.
تألفت الحكومة من أحزاب تُعرف باليمينية واليمينية المتطرفة، أبرزها حزب الليكود بقيادة بنيامين نتنياهو، وحزب الصهيونية الدينية بقيادة بتسلئيل سموتريتش، إلى جانب حزب عوتسماه يهوديت بقيادة إيتمار بن غفير وحزب نوعم بقيادة آفي ماعوز.
توصف هذه الأحزاب بالمتطرفة بمواقفها تجاه العرب والتيارات الأخرى، وهي تعكس التيار الديني الصهيوني المتطرف الذي يشدد على تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، إضافة إلى تعزيز دخول جماعات يهودية إلى باحات المسجد الأقصى. منذ توليها الحكم، بدأت هذه الحكومة بإجراء 3 تغييرات تشكل خطراً وجودياً عليها، فسعت إلى توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية ومصادرة الأراضي وتهجير المواطنين، وأولت اهتماماً كبيراً بالمستوطنات والمستوطنين، وخصصت مليارات الدولارات من موازنتها لدعم الاستيطان في الضفة الغربية. كل ذلك على حساب مواطني المدن الرئيسية في «إسرائيل»، وعلى حساب المشاريع التطويرية، ليشكل هذا الإجراء انتقالاً لمحور الاهتمام في «إسرائيل» من مركز المدينة إلى المستوطنات. وسارعت هذه الحكومة إلى تحويل جيش «إسرائيل» إلى مجموعات من العصابات المسلحة، مثل فرق الحرس الوطني التي ستكون تحت قيادة وزير الأمن القومي، والتي تتكون من متطوعين وعناصر أمن وجنود سابقين، جل نشاطها وعملها مواجهة الفلسطينيين في القدس المحتلة وداخل أراضي فلسطين 48 والمدن الساحلية المختلطة بالفلسطينيين واليهود، وذلك لقمع وإخماد أي هبة شعبية قد تنطلق، فضلاً عن دعوتها إلى تسليح المستوطنين في الضفة الغربية. أما التحوّل الثالث، فكان بالانتقال من القانون إلى الدين كوسيلة حكم، فقد شددت الحكومة منذ يومها الأول على يهودية الدولة، وعلى أن «للشعب اليهودي الحق الحصري غير الخاضع للطعن في جميع أنحاء فلسطين»، وذلك استجابة لنداءات ووعود دينية توراتية.
ولم يكن خافياً في العدوان الأخير على غزة كيف استند نتنياهو في خطاباته إلى التوراة كمرشد وموجه له، وكيف استخدم نصوصه كمبرر لقتل المدنيين، وكيف استذكر «العماليق»، وهم سكان جنوب غرب فلسطين الأصليون، واستذكر الوصية التوراتية الداعية إلى قتلهم ومحو ذكرهم تحت السماء. إذاً، التغيرات الثلاثة التي أسهمت في تشكيل «إسرائيل»، وهي الانتقال من المستوطنة إلى مركز المدينة، ومن العصابات إلى الجيش المنظم، ومن حكم «الكنيس» إلى حكم «الكنيست»، تسير الآن، وفي ظل هذه الحكومة اليمينية المتطرفة، باتجاه معاكس.
هذا التحول سيشكل خطراً كبيراً على مصير هذا الكيان الذي يتحدث قادته هذه الأيام عن خطر وجودي يحيط به في ظل استذكارهم عقدة الثمانين عاماً.
{ أكاديمي فلسطيني مختص في العلوم السياسية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك