القراء الأعزاء،
ها هو شهر ديسمبر يلملم صفحاته الأخيرة ليطوي سجّل عام 2023، وتُطفأ معه كل أضواء الزينة التي تحلّت بها البحرين احتفالاً بأعيادها الوطنية المجيدة، وستبقى من هذه الأعياد قيمتان أساسيتان هما قيمة الوطنية وقيمة المواطنة، وحيث إن الوطنية هي عبارة عن مجموعة العواطف والمشاعر التي تربط الانسان بالوطن، التي تتراكم في الشعور باعتبارها نتاجاً لمعطيات مختلفة، فلن نتطرق إليها في هذا المقال لأن القلوب صناديق مغلقة.
وسيرتكز هذا المقال على مبدأ وقيمة المواطنة، وهي السلوك الذي يُترجم وطنية الانسان وانتمائه إلى وطنه، وغالباً ما يربط الكثير مواطنته برموز وملابس وشعارات معينة يرددها غالباً في المناسبات الوطنية، وتختفي ثم تعاود الظهور بعودة الأعياد.
والحقّ أن للمواطنة صورا كثيرة ذات تفاصيل صغيرة وكبيرة تظهر في سلوك الانسان كلّ بحسب قدرته ومعرفته ووعيه وثقافته وإمكانياته، وهي تنطوي على حقوق وواجبات متبادلة بين المواطن والوطن، فقد تتّخذ المواطنة مثلاً صورة حرص المواطن على الحفاظ على نظافة الطرقات والميادين العامة والالتزام بعدم رمي المخلفات فيها، وصورة أخرى مهمة تتحقق من خلال احترام القوانين الوطنية والحفاظ على النظام العام، وربما تظهر في صورة مبادرة شخصية للنهوض بالمجتمع ودعم فئات معينة فيه بجهد شخصي وليس رسميا.
ومن المؤكد أن النموذج الأخير للمواطنة هو أكثرها جودة وتميّزاً وتعبيراً عن الوطنية الحقّة، إذ تتطلب المبادرات الشخصية جهداً وتفرّغاً وشغفاً ووقتاً ومالاً يقتطعه المتطوع تعبيراً عن وطنيته، من حياته وأمواله الشخصية لكي يكون شريكاً حقيقياً في المجتمع بحسب امكانياته المحدودة.
وحيث إن احتفالات أعياد الوطن 2023، وبالتحديد (المخيم الحقوقي الأول الذي نظمته جمعية البحرين لمراقبة حقوق الانسان) مشكورة، قد أتاح لي بمحض الصدفة فرصة التعرف على شخصية بحرينية مخلصة تستحق تسليط الضوء على مشروعها الإنساني المميز، وبالتأكيد هناك مواطنون كثر على غرار هذه السيدة، ولكنني سأتطرق إلى مشروعها لأنني تعرفت عليه من كثب صدفة، والحكاية بدأت كالاتي:
عند دخولي مع مجموعة من الصديقات إلى المخيم الحقوقي، حيث كان على يمين المدخل فعالية المرسم الحرّ، التي يُشارك فيها مجموعة من الأطفال واليافعين من المصابين بمتلازمة داون أو طيف التوحّد، وفور اقترابي من المرسم التفتت إلي طفلة منهم من متلازمة داون، وبمجرد رؤيتي فغرت فاها دهشة تعبيراً عن اعجابها بي في مشهد جميل مُفعم بالبراءة لن يبرح ذاكرتي أبداً، ثم نهضت الطفلة وسارت باتجاهي واستأذنت لاحتضاني، معبّرة عن حُبّ لحظي بالكلمات والاحتضان، ثم اقتربت مني سيدة بحرينية تُثني على تلك الفتاة وأنها مبدعة في الرسم بشكل دقيق ومُتقن، وعرفت بعدها أن هذه السيدة تحمل في قلبها رسالة إنسانية وتعمل وفقاً لها.
تلك السيدة كانت الدكتورة زينب سوار، وقد كانت تعمل أخصائية أولى في مركز رعاية الموهوبين في وزارة التربية، وتقاعدت من العمل الرسمي، ولكنها لم تتقاعد عن رسالتها الخاصة، فأنشأت مركزاً خاصاً يحمل اسم (مركز مايكرو آرت للتدريب) وهو مؤسسة غير ربحية ولا تهدف إلى الكسب المادي وإنما هو استثمار في الإنسانية والمواهب التي لا راعي لها.
ومن مهام المركز الأساسية تبنّي المواهب الفنية ولا سيما تلك التي يصعُب على أسرهم رعايتهم فنياً بسبب ظروفهم المادية، من ذوي الاحتياجات الخاصة أو طيف التوحد؛ والاهتمام بمواهبهم والعمل على دمجهم في المجتمع بكل الوسائل، بجانب رعايتها للموهوبين العاديين، على أن تشمل عناية المركز والعاملين فيه أحياناً الجوانب الحياتية الخاصة لهذه الفئة من الموهوبين ومساعدتهم بقدر المستطاع وتذليل الصعاب أمامهم وإتاحة الفرصة لهم للمشاركة مجتمعياً وإبراز مواهبهم في الفنون المختلفة، كل ذلك بجهود فردية وبدعم بسيط من هنا وهناك من بعض المهتمين والفنانين وبعض المسؤولين.
وحيث إن موهبة الفن والرسم بحاجة إلى رعاية وعناية في جميع المراحل، لذا فإن المركز يعنى بتعليم الفن وصقل المواهب الفنية للفئات من أربعة أعوام وما فوق، ويقيم المركز ورشاً فنية وتعليمية لجميع أنواع الفنون مثل الرسم التشكيلي، والفنون الجميلة، والمسرح، والموسيقي والخياطة والتطريز، وتُطرح هذه الورش لجميع الفئات العمرية بشكل دوري ومتواصل، كما يُشارك المركز بأعمال منتسبيه من الموهوبين في معظم الفعاليات المجتمعية التي تنظمها المحافظات والمؤسسات العامة والخاصة.
والأصل هو أن المركز مؤسسة غير ربحية، وينظم الفعاليات والورش بشكل مجاني لذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أنه يحتسب رسوما رمزية على الورش التعليمية للأشخاص العاديين من قبيل توفير موارد مالية للمركز الذي يقوم على جهود فردية وموازنة متواضعة من دخل مؤسسيها الشخصي.
وعود على فعل المواطنة، فإن انشاء مركز مماثل من مواطنة عادية لا تسعى إلى تحقيق الربح، بل كان همّها الأول هو النهوض بالمواهب الفنية لفئة ذوي الاحتياجات الخاصة واحتضانهم في محيط أسري بعيدا عن أسرهم لتُسهم في انشاء أسرة أخرى لهذه الفئة تُعزز العناية بهم وترفع مستويات ثقتهم بأنفسهم، هو عمل يُنبئ عن المواطنة الحقّة لدى صاحبة المشروع، ويضعنا في مواجهة امرأة بحرينية أسهمت بفعلها في رفد سجل تقدم المرأة البحرينية بتجربة تستحق الإشادة والتقدير والشكر، فشكرا للدكتورة زينب سوار.
مع أمنياتي لجميع القراء الأعزاء عاما ميلاديا جديدا سعيدا وموفقا.
Hanadi_aljowder@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك