هل سمعتُم أو قرأتم عن حالة الطوارئ التي أعلنها الرئيس الأمريكي جو بايدن في 19 نوفمبر 2023؟
في الواقع أنني متأكد أن الكثير من الناس حول العالم لم يعرف، ولم ينتبه إلى حالة الطوارئ هذه التي أعلنها الرئيس الأمريكي بايدن، وقد يكون هذا في تقديري لسببين رئيسيين. الأول أن الناس حول العالم قد توجهت عنايتهم واهتمامهم وبوصلتهم بشكلٍ كلي نحو الحرب العدوانية الغاشمة والظالمة التي شنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة، فدمر الحجر والشجر والبشر على حدٍ سواء تدميراً شاملاً، ربما لم ير له التاريخ مثيلاً، لا قديماً ولا حديثاً، وأما السبب الثاني فهو القطاع والمجال الذي أَعلن فيه الرئيس الأمريكي حالة الطوارئ، فلم يكن ضمن القطاعات التقليدية القديمة المعروفة منذ سنوات طويلة.
فهذه المرة حالة الطوارئ لم تكن لكارثة طبيعية كوقوع زلزال، أو فيضان، أو أعاصير مدمرة قد وقعت في إحدى ولايات أمريكا، ولم يكن الإعلان الرئاسي الطارئ لوباء صحي ومرض عضال معدٍ نزل على البلاد، ولم يكن كذلك لحالة أمنية وعدم استقرار في البلاد نتيجة لأعمال شغب وعنف عمَّت الولايات المتحدة.
فحالة الطوارئ أُعلنت لسبب مزدوج مترابط، وهو سبب بيئي وصحي في آنٍ واحد، حيث تلوثت مياه الشرب في جزر فيرجين (Virgin Islands) التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في مدينة سينت كرويكس (St Croix)، فتسممت المياه التي يشربها الناس ويستخدمونها كل ساعة لاحتياجاتهم اليومية بأحد العناصر الثقيلة السامة والقاتلة المسببة للأمراض والأسقام الحادة والمزمنة، وهو عنصر الرصاص الذي يُعد من أقدم العناصر التي عرفها الإنسان. وهذه الحالة تَعْني بأن أكثر من خمسين ألف إنسان في تلك المدينة أصبحوا مقطوعين عن أهم عنصر يعتمد عليه الإنسان والحيوان والنبات على حدٍ سواء في الحياة والنمو، إذ لا حياة بدونه، وهو الماء.
وهذا الإعلان من بايدن جاء متأخراً كثيراً ومتجاهلاً لهذه المشكلة البيئية الصحية الحيوية، حيث سبقه الإعلان الأول من حاكم هذه الجزر الأمريكية في 13 أكتوبر 2023، وحذَّر فيه السكان من استخدام المياه للشرب، أو الأغراض المنزلية الأخرى، فقد قاموا بتحليل عينات من مياه الحنفية، أو مياه الصنبور المنزلي، ومن بين 108 عينات تم جمعها من المنزل ومن مصادر مياه الشرب، كانت نسبة الرصاص والنحاس مرتفعة جداً في 38 عينة، حيث وصلت إلى 15 جزءاً من الرصاص في البليون جزء من الماء، أي أعلى من مواصفات الرصاص في مياه الشرب بأكثر من 100 مرة.
وهذه النسبة العالية للرصاص في مياه الشرب تنعكس مباشرة على تركيز الرصاص في الدم، ولها تداعيات صحية خطيرة من الناحية الفسيولوجية العضوية، والنفسية المتعلقة بتصرفات وسلوكيات الأطفال بشكلٍ خاص، أي أن وجود الرصاص في مياه الشرب يعني كارثة بيئية وصحية عامة.
الجدير بالذكر ان مثل هذه الكارثة الصحية العامة لم تحدث كواقعة فردية في هذه الجزر النائية البعيدة عن الولايات الأمريكية الأخرى، والبعيدة عن التقدم والتطور، وإنما هي من الكوارث القديمة المتجددة التي نراها ونسمع عنها في مدن الولايات الأمريكية بين الحين والآخر، فتتكرر المشاهد نفسها التي نعاصرها الآن في جزر فيرجين الأمريكية.
وكل هذه الأزمات الصحية البيئية المتعلقة بتلوث مياه الشرب تنجم عن سببٍ واحد رئيس تعاني منه الكثير من مدن أمريكا العريقة والقديمة والتي معظم سكانها من الفقراء والمستضعفين الذين لا يتمتعون بتعليمٍ رفيع، ولا ثقافة عالية، وهو أنابيب الرصاص الموجودة حتى يومنا هذا تحت الأرض منذ مئات السنين، والتي تنقل المياه إلى المنازل، والمدارس، والشركات، والمباني السكنية، حيث تشير التقارير إلى أن عدد هذه الأنابيب في مدن أمريكا يصل إلى قرابة 9 ملايين. وهذه الأعداد الكبيرة من أنابيب الرصاص الجاثمة تحت سطح الأرض أصبحت الآن بالية ومتهالكة وتتسرب منها الملوثات المعدنية، وعلى رأسها الرصاص والنحاس، ولذلك فهي تشكل قنبلة كيميائية تنفجر بين الحين والآخر في المدن الأمريكية، وتظهر على هيئة سموم معدنية مَرَضية في مياه الشرب، وفي بعض الأحيان يشرب سكان المدن مياهاً ملوثة بهذه السموم عدة سنوات دون أن يعلموا عن وجودها.
وبالرغم من تقدم أمريكا في جميع المجالات والقطاعات، وبالرغم من تطورها على كل دول العالم، وبالرغم من ثرائها وغناها، إلا أنها أَهْملت هذه القضية البيئية الصحية العامة، وتجاهلتها سنوات طويلة، فلم تنجح في تحقيق العدالة البيئية الصحية بين سكان مدن الولايات المتحدة من حيث الاستجابة لحقٍ مهم جداً من حقوق المواطن والإنسان بشكلٍ عام، وهو حق التمتع بمياه شرب نظيفة وصافية وسليمة خالية من السموم والملوثات.
وفي تقديري فإن السبب في اهمال وتجاهل الحكومات الأمريكية المتعاقبة لهذه الأزمة الصحية هو أن معظم أنابيب الرصاص مدفونة في المدن الفقيرة التي يسكنها الفقراء والأقليات، ولذلك لا تجد هذه المدن آذاناً صاغية، أو اهتماماً مشهوداً، أو أن توضع قضيتهم الصحية في أولويات الانفاق من خلال إزالة هذه الأنابيب الرصاصية واستبدالها بأنابيب لنقل وتوزيع المياه أقل ضرراً لصحة الناس.
فعلى سبيل المثال، تكررت حوادث تلوث مياه الشرب في مدينة فلينت (Flint) الواقعة بالقرب من عاصمة صناعة السيارات في مدينة ديترويت بولاية ميشيجن، بدءاً من عام 2004، والتي معظم سكانها من الفقراء السود، حيث تحولت مياه الشرب في المنازل إلى اللون البني الأصفر، واشتكى الناس من لون ورائحة المياه، وارتفع مستوى الرصاص في دماء أطفال المدينة، واستمرت هذه الأزمة العامة حتى أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما حالة الطوارئ في المدينة في 24 يناير 2016.
كذلك تلوثت مياه الشرب بالرصاص في مدينة نووارك (Newark) الفقيرة بولاية نيو جيرسي، ونظراً لاستمرار المشكلة دون حل جذري، فقد أرسل عمدة المدينة خطاباً في ديسمبر 2018 إلى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يطلب فيه دعماً من الحكومة الاتحادية لعلاج المشكلة. كما تم إعلان حالة الطوارئ في مدينة بنتون هاربر (Benton Harbor) بولاية ميشيجن في 18 أكتوبر 2022 بسبب تلوث مياه الشرب بالرصاص.
وبعد عقود من استمرار هذه المشكلة الصحية العامة، استيقظت الحكومة الأمريكية ممثلة في الرئيس بايدن، حيث قدَّمت وكالة حماية البيئة مقترحاً في 30 نوفمبر 2023 حول استبدال أنابيب الرصاص في المدن الأمريكية خلال عشر سنوات وبكلفة تُقدر بنحو 45 بليون دولار.
وبالرغم من ذلك فهناك الملايين من الشعب الأمريكي الذين ستستمر معاناتهم من التسمم بالرصاص في مياه الشرب في منازلهم ومدارسهم، وستتدهور صحتهم وصحة فلذات أكبادهم لسنوات طويلة لا تقل عن عشر سنوات، حتى تنتهي عملية استبدال أنابيب الرصاص، وفي تقديري ستستمر العملية لفترة أطول وستزيد المعاناة عند الناس، وخاصة إذا تغيرت الحكومة في البيت الأبيض، كما حدث في الكثير من الحالات السابقة.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك