على الرغم من ملاحظات على أداء حركة حماس وكيفية إدارتها سلطتها في قطاع غزة، وبعض الانتقادات حتى لعملية 7 أكتوبر فإن الحرب وحّدت الفلسطينيين: الفتحاوي، العلماني، العروبي... ناهيك عن الإسلامي. جميعهم معنيّون، تجاوزوا انقساماتهم، ووقفوا صفّاً واحداً مع «حماس» في معركتها العسكرية مع الجيش الإسرائيلي. صارت القضية وطنية فلسطينية، تعني كل فلسطيني على وجه الأرض، مهما كانت عقيدته أو أفكاره.
وهذه الحرب فجّرت ضمير العالم. فغاب السؤال «التمهيدي» إياه الموجّه إلى كل معنيٍّ بالقضية، بعيد عملية طوفان الأقصى: «أنت مع حماس أم ضدّها؟»... نسيه المتكلمون والسائلون. طغى عليهم هوْل المقتلة الإسرائيلية في غزّة، وتفلّت الجيش الإسرائيلي من جميع الاعتبارات القانونية، الإنسانية، وربما حتى العسكرية، فالعالم مذهول، لا يصدّق ما يراه من صور حيّة تُنذر ببداية نهاية التفوق الأخلاقي - السياسي للغرب. سوف يترتّب عليها لاحقاً مراجعة لأركانها، لصدقها، لخبثها، لموازينها غير العادلة.
هكذا، فُتِحت كتب التاريخ على مصراعيْها. ماذا؟ احتلال؟! وعمره 75 عاما؟ ولم نكن ندري به؟ في أي عالم كنا نعيش؟ في الكذب المحض؟ في فقاعة؟ كالصيصان؟... فعادت إلى الصدارة صور النكبة، وحكايات الرحيل الأولى، والطرد من الأرض... وروايات كأنها جديدة. عشناها وعاشها آباؤنا وأجدادنا... ومرّت أمام ضمير العالم وكأنها لم تحصل.
«شكراً شكراً فلسطين... أنتِ حرّرتني من جهلي من قلّة مبالاتي، من قلّة إحساسي...»، يقول أحد المؤثرين الأميركيين. ثم يعود ويغوص في تفاصيل أهل غزّة، يعرض الصور والأفلام، ويتابع أن صورة لا تُبارحه أبداً: «تلك الأم التي تحمل كفن طفلها بذراعيْها، وهي جاثية على الأرض، تضمّه إليها كأنها تهدْهده، تنظر إليه بشوق، تبدو ركعتها مستمرّة بالنزول إلى الأسفل، لا تطيق الابتعاد عن جثمانه، تريد مرافقته إلى قبره».
أيضاً: العالم فيه الآن سيولة «فكرية»، تكاد توازي السيولة الجيوستراتيجية؛ من أن أميركا ما بعد نهاية الحرب الباردة لم تَعُد الحاكم المطلق للعالم... الأفكار تضيق، تتداخَل، تختلط، مثل التحالفات القديمة.
الحرب على غزّة دخلت في هذه السيولة وقلبت المعايير. في الأخلاق، الردّ الإسرائيلي على عملية «طوفان...» نزعت عن إسرائيل كل البراءة التي نسجتها حول نفسها بصفتها دولة قانون وديمقراطية. إسرائيل دولة مجرمة. دولة غير أخلاقية. وهذا واضحٌ أمام أعين العالم، «لايف»، بفضل التكنولوجيا.
وإسرائيل التي كنّا نشعر بالدونيّة العقلية تجاهها، نعتقدها أذكى منّا، أصدق منا، دولة أفراد أحرار... ها هي تبدو بالملموس دولةً غبّية، تزيدها غطرستها غباء، وعبثية أحياناً.
خذْ هذا المقطع الذي نشر منذ أيام، عن العودة إلى المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وحركة حماس: «حماس تطلب وقف إطلاق النار قبل التفاوض حول الرهائن. وإسرائيل منفتحة على هدنة، ولكنها تستبعد أي وقف للنار قبل إلغاء حماس». أي أن إسرائيل تطلب من «حماس» التخلّي عن إحدى أقوى أوراقها، أي الرهائن الإسرائيليين، ومن دون وقف إطلاق النار، لكي تسمح لها من بعدها بـ«إلغائها» (هذا نوع من التذاكي السمِج).
وإسرائيل تزداد غباء كلما تنكر على الفلسطينيين حقّهم، كلما تتجاهلهم، كأنهم غير موجودين إلا في الأراضي التي قرّر المستوطنون مصادرتها. كل الأسلحة، كل الثراء، كل أجهزة المخابرات، كل التكنولوجيا، كل «الحداثة»، كل العبقرية... أفضت إلى «طوفان الأقصى»، «صدمة الطوفان...».
إسرائيل الآن تعيش في وضعية المهزوم الذي كان شديد الغرور عشية هزيمته. ما يفسّر حالات الاكتئاب الفردي والجماعي، والشعور باليأس والهرب من إسرائيل، فقدان الثقة بأمنها.
وستمرّ بضعة أشهر قبل أن تخرج أدبيات الهزيمة الإسرائيلية، لأن الحرب كشفت لدى هذا الرأي العام العالمي ترابطاً عميقاً بين فلسطين وفيتنام. ليس فقط عمق الأنفاق وبلاغتها والصبر والصمت والخيال والمثابرة لبنائه... ليس فقط لأن المشترك بينهما أن قنابل التسعمائة طن التي يرميها الإسرائيليون على غزّة هي نفسها القنابل التي كانت ترميها الولايات المتحدة على فيتنام. أو أن فلسطين خرجت عن كونها قضية عربية وصارت قضية عالمية، بل لأن هذا الترابط يُنبئ بالنصر، على غرار الفيتنامي.
{ كاتبة وأكاديمية لبنانية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك