الصراع على الموارد الأرضية والثروات والخيرات الموجودة فوق سطح الأرض وفي باطنها قد حُسم منذ عقود طويلة من الزمن وانتهى الآن إلى حدٍ بعيد، فكل دولة أخذت حصتها من هذه الثروات والموارد الحية وغير الحية، واستقرت الأمور وتمت الموافقات السياسية والعسكرية على نصيب كل دولة.
واليوم بدأ صراع آخر يحتدم على مصدرٍ جديد للثروات الطبيعية الفطرية التي خزَّنها الله سبحانه وتعالي للبشرية جمعاء، وبدأت التكتلات الاقتصادية والسياسية تتشكل وتتحد لاحتلال هذه المصادر والسيطرة عليها، ثم توزيعها وإعطاء كل دولة حصتها حسب نفوذها، وقوتها، وهيمنتها على الساحة الدولية.
وهذا المصدر الجديد الذي بدأت المعارك تحوم حوله وتشتد هو الثروات المعدنية القابعة في أعماق المحيطات الشديدة البرودة، والمظلمة على أعماق كيلومترات طويلة تحت سطح البحر، إضافة إلى ثروة التنوع الحيوي النباتي والحيواني النادرة، والفريدة من نوعها وغير الموجودة في أي مكان آخر في كوكبنا.
وهنا بالتحديد أقصد مناطق البحار العليا العميقة الخارجة عن حدود الدول والخيرات المعدنية والحيوية الجاثمة في قاعها، والتي لا تندرج تحت سيطرة أي دولة، وليست لأية السيادة عليها والهيمنة على مواردها الطبيعية، فهي مناطق عامة تشترك فيها كل دول العالم على حدٍ سواء، ولذلك فالثروات التي قد تُكتشف فيها يجب أن توزع بالعدل والمساواة على الجميع.
فهذا من المفروض أن يكون الوضع من الناحية النظرية، ولكن من الناحية الواقعية والعملية فنحن لا نعيش في عالم تسود فيه العدالة والمساواة، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإنما نعيش في عالم متجبر دكتاتوري، يأكل فيه القوي الضعيف، ويعتدي فيه القوي على حرمات الضعيف، ويسرق فيه الغني والمتسلط مال الفقير الذي لا حول له ولا قوة.
ولذلك فالدول الصناعية الغنية المتقدمة توجهت أنظارها إلى هذا المصدر الجديد للثروة المعدنية والحيوية في أعماق المحيطات، وبدأ سباق التنافس والسيطرة عليها وجعلها تحت نفوذها، وبخاصة أن العالم يتجه الآن وفي المستقبل نحو ثورة جديدة لتطوير وإنتاج مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة بعيداً رويداً رويداً عن مصادر الوقود الأحفوري، والمتمثلة في السيارات الكهربائية، وألواح الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها. وهذه الثورة لكي تنجح وتستديم وتؤتي أكلها بحاجة إلى مواد معدنية خام تقوم عليها وتُشغل مصانعها، كالليثيوم، والنيكل، والنحاس، والعناصر الأرضية النادرة، والمنغنيز، والخارصين، وهذه المعادن مخزنة بدرجة كبيرة في أعماق قاع المحيطات التي لا تقع تحت سيادة أحد.
ومن الحِيل التي تستخدمها الدول الصناعية القوية والمؤثرة على الساحة السياسية الدولية مثل الولايات المتحدة الأمريكية هي توسعة ومد مساحة الجرف القاري تحت البحر لمساحات واسعة جداً، فتُدْخِلها وتَضُمها كجزء لا يتجزأ إلى مساحة الدولة تحت البحر، وهذه المساحات التي تصبح تحت سيادتها وهيمنتها، تكون في أغلب الأحيان غنية وثريَّة بالمعادن التي تقوم وتعتمد عليها ثورة مصادر الطاقة المتجددة العالمية القادمة، وتكون هي الخطوة الاستباقية لتأمين المواد الخام لتشغيل مصانعها، واحتكار سوق مصادر الطاقة البديلة.
فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في 19 ديسمبر 2023 في المنشور الصادر تحت عنوان: «إعلان عن الحدود الخارجية الممتدة للجرف القاري للولايات المتحدة»، عن الحدود الخارجية للجرف القاري للولايات المتحدة في مناطق تتجاوز 200 ميل بحري من الساحل، ويُطلق عليها «الجرف القاري الممتد» (Extended Continental Shelf). وهذه المساحة اللامتناهية التي ضمتها أمريكا إلى مساحتها تُقدر بنحو مليون كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة ولاياتها الكبيرة كولاية كاليفورنيا وتكساس. وتحتوي هذه المساحة العظيمة التي تطالب بها أمريكا والواقعة في القطب الشمالي وبحر برنج (Bering Sea) على ثروات بحرية فطرية كسرطان البحر، والشعاب المرجانية، إضافة إلى النفط والغاز، والموارد والثروات المعدنية التي هي أساس النجاح والتفوق في الثورة الصناعية في مجال مصادر الطاقة النظيفة المتجددة. وقد أَكدتْ على هذه الحقيقة وكالة «بلومبيرج» في 23 ديسمبر 2023 عن حصة الأسد التي تطالب بها أمريكا من خيرات قاع المحيطات والموارد المخزنة للبشرية جمعاء، حيث ورد هذا في المقال تحت عنوان: «الولايات المتحدة تطالب بجزء كبير من قاع البحر وسط دفعة استراتيجية للموارد». وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة أخذت أيضاً مساحات إضافية في مناطق أخرى في المحيط الأطلسي وخليج مكسيكو تحت مبرر وحجة الجرف القاري.
ومثل هذه الخطوة لا يمكن أن تقوم بها الدول الفقيرة والمستضعفة والتي لا تأثير لها ولا نفوذ على المستويين السياسي والعسكري، فتحديد مساحة الجرف القاري عادة ما تحتاج إلى موافقة الأمم المتحدة، وبالتحديد معاهدة البحار لعام 1982 التي تنظم مثل هذه العمليات والإجراءات الدولية، علماً بأن أمريكا لم تصادق على هذه المعاهدة، فقامت بهذا الإجراء دون موافقة هذه الجهة الدولية ذات الاختصاص، ودون مراجعتها واستشارتها، وكأنها لا تعترف بوجودها أصلاً كأداة دولية، فرَسَمتْ حدودها تحت البحر من جانب واحد فقط، وعلى حسب أهوائها ومصالحها القومية.
وبعد أن قامت بهذه الخطوة الأحادية وفرضت رأيها على العالم، ستتخذ خطوات أخرى بهدف السيطرة على المنابع المعدنية القابعة في أعماق المحيطات والتي تشترك فيها كل دول العالم، علماً بأن هناك ثلاثة أنواع من مناطق التنقيب عن المعادن، فالأول هو الترسبات متعددة المعادن بحجم البطاطس في قاع المحيط (deposit-rich polymetallic nodules)، ومن أشهرها منطقة (Clarion-Clipperton Fracture Zone) في المحيط الهادئ بالقرب من الساحل الأمريكي الغربي بين هاواي والمكسيك، ومساحتها نحو 4.5 ملايين كيلومتر مربع. وأما النوع الثاني فهو ترسبات مركبات الكبريتيد (polymetallic sulphides)، والثالث فهو الصخور القاعية (crusts)، وهي عبارة عن جبال تحت سطح المحيط (seamounts).
وهذه الثروات المعدنية والحيوية المشتركة تقع تحت مسؤولية وكالةْ، أو سلطة أممية معنية بتنظيم أعماق المحيطات، أو مناطق البحار العليا (The International Seabed Authority)، سواء من ناحية التنقيب والاستخراج، أو الاستفادة من ثرواتها للبشرية جمعاء. ولذلك ستكون هي كغيرها من وكالات ومنظمات الأمم المتحدة لعبة تحت يد وسلطة الدول العظمى، وستقع تحت سيطرة مباشرة من كل من له النفوذ والسلطة الأكبر. وستُمثل هذه الوكالة الأممية مجرد الغطاء الشرعي والقانوني للدول المتنفذة العظمى لتعبث في أعماق البحار فساداً، ونهباً لخيراتها ومواردها العامة والمشتركة، وتشغيلاً لمصانعها وبرامجها التنموية، وفي المقابل ستنتظر الدول الفقيرة والنامية ليُلقى عليها الفتات والقليل مما يتبقى من ثروات أعماق المحيطات.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك