عندما احتلت المليشيات الصهيونية المدججة بأحدث الأسلحة الغربية فلسطين التاريخية في الفترة ما بين عامي 1947 و1948، عبرت عن انتصارها من خلال الإمعان في الإذلال المتعمد للسكان الفلسطينيين.
لقد استهدفت العصابات الصهيونية الكثير من النساء الفلسطينيات، على وجه الخصوص، وأمعنت في إذلالهن، مع العلم أن العار الذي يلحق بالفلسطينيات، وفقًا للثقافة العربية، إنما يلحق بالمجتمع بأكمله.
ولا تزال هذه الاستراتيجية الصهيونية قيد الاستخدام حتى يومنا هذا وتستهدف مختلف فئات الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.
عندما تم إطلاق سراح العشرات من النساء الفلسطينيات في أعقاب تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، بدءاً من يوم 24 نوفمبر 2023، لم يكن هناك مجال كبير لإخفاء الحقائق الصادمة والشنيعة.
وخلافاً للمجتمع الفلسطيني الذي كان موجوداً قبل 75 عاماً، فإن هذا الجيل الحالي لم يعد يستوعب إذلال إسرائيل المتعمد للنساء والرجال على حد سواء، وكأنه عمل من أعمال العار الجماعي.
وقد سمح ذلك للعديد من السجينات الفلسطينيات المفرج عنهن حديثًا بالتحدث علنًا، غالبًا على شاشة التلفزيون المباشر، عن نوع الإذلال الذي تعرضن له أثناء وجودهن رهن الاعتقال العسكري الإسرائيلي.
ومع ذلك، يواصل الجيش الإسرائيلي التصرف بنفس العقلية القديمة، معتبراً أن الإمعان في إذلال الفلسطينيين إنما يمثل تعبيراً عن الهيمنة والقوة والتفوق.
على مر السنين، أتقنت إسرائيل سياسة الإذلال – وهو المفهوم الذي يستند إلى القوة النفسية المتمثلة في فضح جماعات بأكملها لتأكيد العلاقة غير المتكافئة بين مجموعتين من الناس: في هذه الحالة، قوة الاحتلال والشعب الذي يرزح تحت نير الاحتلال.
ولهذا السبب على وجه التحديد، قامت إسرائيل، في الأيام الأولى للحرب التي تخوضها في قطاع غزة، باحتجاز جميع العمال الفلسطينيين من القطاع الذين تصادف أنهم كانوا يعملون داخل إسرائيل كعمالة يومية غير مكلفة، في وقت عملية 7 أكتوبر التي باتت تعرف باسم «طوفان الأقصى».
وقد أظهر التجريد من الإنسانية الذي تعرض له أولئك العمال الفلسطينيون على أيدي الجنود الإسرائيليين وجود اتجاه متزايد بين الإسرائيليين للحط من شأن الفلسطينيين وانتهاك إنسانيتهم من دون أدنى سبب على الإطلاق.
ووقعت إحدى أسوأ الأحداث الشنيعة التي تم بالفعل رصدها وتوثيقها بتاريخ 12 أكتوبر 2023م، عندما اعتدت مجموعة من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين على ثلاثة نشطاء فلسطينيين في الضفة الغربية.
وصفت صحيفتا هآرتس وتايمز أوف إسرائيل الإسرائيليتان كيف تم الاعتداء على الفلسطينيين الثلاثة، وتجريدهم من ملابسهم، وتقييدهم، وتصويرهم، وتعذيبهم، والتبول عليهم أيضا إمعانا في إذلالهم.
وكانت تلك الصور لا تزال حاضرة في أذهان الفلسطينيين عندما ظهرت صور جديدة من شمال غزة.
لقد ظهرت هذه الصور ومقاطع الفيديو التي نشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية رجالاً مجردين من ملابسهم باستثناء ثيابهم الداخلية، وقد تم وضعهم بأعداد كبيرة في شوارع غزة، بينما كانوا محاطين بجنود إسرائيليين مجهزين تجهيزاً جيداً ويفترض أنهم يشكلون تهديداً.
تم تقييد أيدي الرجال ووضعهم معًا وإجبارهم على الانحناء ثم، في النهاية، تم إلقاؤهم في شاحنات عسكرية لنقلهم إلى مكان مجهول.
وتم إطلاق سراح بعض الرجال في نهاية المطاف لسرد قصص رعب، والتي غالبًا ما كانت تنتهي بنهايات دموية.
ولكن لماذا تفعل إسرائيل كل هذه الأفعال الشنيعة؟
طوال تاريخها – ومنذ ولادتها العنيفة وفي خضم العنف الدموي الذي رافقها – عمدت إسرائيل إلى إذلال الفلسطينيين عمداً كتعبير عن قوتها العسكرية الأكبر بشكل غير متناسب على سكان بائسين ومحاصرين أغلبهم من اللاجئين.
وقد تم غرس هذا التكتيك بشكل أكبر خلال فترات معينة من التاريخ عندما شعر الفلسطينيون بالتمكين وازدادت إرادة المقاومة فيهم، وذلك كوسيلة لكسر روحهم الجماعية.
وكانت الانتفاضة الأولى (1987-1993) مليئة بحالات عديدة من هذا النوع من الإذلال. وعادة ما يتم جر الأطفال والرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و55 عاماً إلى ساحات المدارس، وتجريدهم من ملابسهم، وإجبارهم على الركوع ساعات طويلة، وضربهم وإهانتهم على أيدي الجنود الإسرائيليين باستخدام مكبرات الصوت.
لقد طالت هذه الإهانات على مدى أعوام كل ما يعتز به الفلسطينيون، ديانتهم، إلههم الذي يعبدونه، أمهاتهم، أماكنهم المقدسة والمزيد من الأمور الأخرى، ثم يُجبر الأولاد والرجال على القيام بأفعال معينة، على سبيل المثال البصق في وجوه بعضهم البعض، أو الصراخ بألفاظ نابية معينة، أو صفع أنفسهم أو بعضهم البعض. أما أولئك الذين يرفضون الانصياع، فإنهم يتعرضون على الفور للضرب والاعتقال.
يستمر تطبيق هذه الأساليب في السجون الإسرائيلية، خاصة خلال أوقات الإضراب عن الطعام، ولكن أيضًا خلال فترات الاستجواب. وفي الحالات الأخيرة، يتم تهديد الرجال باغتصاب زوجاتهم أو أخواتهم؛ كما يتم تهديد النساء الفلسطينيات بالعنف الجنسي.
غالبًا ما تُقابل هذه الأحداث بتحدٍ فلسطيني جماعي، وهو ما يغذي المقاومة الشعبية الفلسطينية بشكل مباشر.
إن صورة المقاتل الفلسطيني، الذي يرتدي الزي العسكري، ويلوح ببندقية آلية، ويسير بفخر في شوارع نابلس أو جنين أو غزة، لا تخدم في حد ذاتها غرضا عسكريا حقيقيا. ومع ذلك، فهي استجابة مباشرة للأثر النفسي لهذا النوع من الإذلال الذي يلحق بالمجتمع الفلسطيني على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ولكن ما وظيفة العرض العسكري الفلسطيني؟ للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نتمعن في تسلسل الحدث.
عندما تعتقل إسرائيل نشطاء فلسطينيين، فإنها تحاول خلق السيناريو المثالي لمجتمع ذليل، ومهزوم ومكسور الإرادة – الرعب الذي يشعر به الناس عندما تبدأ المداهمات الليلية، وضرب عائلة المعتقلين، وصيحات الإهانات إلى جانب حركات أخرى مصممة خصيصا ومشاهد الرعب.
وبعد ساعات، يخرج الشباب الفلسطيني إلى شوارع أحيائهم، وهم يستعرضون بنادقهم بفخر، وسط زغاريد النساء ونظرات الأطفال المتحمسين. وهذه هي بالضبط الطريقة التي يرد بها الفلسطينيون على الإذلال.
لقد ازدادت قوة المقاومة الفلسطينية المسلحة في السنوات الأخيرة، وتشكل غزة حاليًا مثالاً على ذلك.
مع فشل الجيش الإسرائيلي في إعادة احتلال غزة وإخضاع سكانها، فإن استخدام سياسة الإذلال على نطاق واسع أمر مستحيل بكل بساطة.
بل على العكس من ذلك، فإن الإسرائيليين هم الذين يشعرون بالمهانة، ليس فقط بسبب ما حدث في السابع من شهر أكتوبر، بل بسبب كل ما حدث منذ ذلك الحين.
ومع عجزه عن العمل بحرية في قلب غزة أو خان يونس أو رفح أو أي مركز سكاني رئيسي آخر في القطاع، يضطر الجيش الإسرائيلي إلى إذلال الفلسطينيين في أي منطقة صغيرة يمكنهم السيطرة عليها، مثل بيت لاهيا.
بعد أن شعر الإسرائيليون العاديون بالإحباط بسبب فشلهم العسكري في الوفاء بوعودهم بإخضاع سكان غزة، لجأوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتهكم على الفلسطينيين بطريقتهم الخاصة.
كانت النساء الإسرائيليات، في كثير من الأحيان مع أطفالهن، يرتدين ملابس من شأنها أن تنقل تصويرًا عنصريًا للنساء العربيات اللاتي يبكين على جثث أطفالهن القتلى.
ويبدو أن هذا النوع من السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي قد نال إعجاب مخيلة المجتمع الإسرائيلي، الذي لا يزال يصر على إحساسه بالتفوق حتى في الوقت الذي لا يزال فيه يدفع ثمن عنفه وغطرسته السياسية.
ولكن هذه المرة أثبتت سياسة الإذلال التي تنتهجها إسرائيل عدم فعاليتها، لأن العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في طريقها إلى التغير بشكل جذري.
لا يشعر المرء بالإهانة إلا إذا استوعب هذا الإذلال كشعور بالعار وفقدان القدرة وغياب الإرادة، لكن الفلسطينيين، هذه المرة، لا تنتابهم مثل هذه المشاعر. بل على العكس من ذلك، فقد ولّد الصمود المستمر والوحدة شعوراً بالفخر الجماعي لا مثيل له في التاريخ.
{ أكاديمي وكاتب صحفي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك