في بداية العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة؛ قدمت الدول الغربية دعمها المطلق لدولة الاحتلال، بما يُمكن حكومتها اليمينية المتطرفة من التصرف بأي وسيلة ترغب فيها. وبدلاً من إصدار دعوات تحذير من التصعيد لتجنب صراع إقليمي أوسع تبنت حكومات كل من «الولايات المتحدة»، و«المملكة المتحدة»، و«فرنسا»، و«ألمانيا»، ما أسمته «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، بالإضافة إلى تزويدها بالسلاح والدعم السياسي، ما يبدو معه أن الغرب قد منحها مطلق الحرية في قتل المدنيين الفلسطينيين من دون مساءلة.
وعلى الرغم من استشهاد وإصابة آلاف المدنيين الفلسطينيين، واحتجاج وإدانة الملايين حول العالم ضد العدوان الإسرائيلي بسبب عمليات القصف الجوي، واشتداد ضراوة الغزو البري لقطاع غزة؛ فقد رفضت الدول المذكورة أعلاه تغيير مواقفها، الأمر الذي لم يدمر سمعتها كمدافعة عن القانون الدولي وحقوق الإنسان –كما تدعي– فحسب، بل أيضًا أكد ازدواجية معاييرها، واعتبارها شريكة في أعمال القتل والتدمير ضد الشعب الفلسطيني.
ومع تصاعد العدوان ووضوح نوايا إسرائيل، ورغبتها في إلحاق أكبر قدر ممكن من المعاناة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وضياع الأمل في إمكانية التوصل إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار تغيرت مواقف الحكومات الغربية – مع أن بعضها كان أبطأ من غيرها – ومنذ بداية الحرب، كان موقف «بلجيكا» و«إيرلندا» و«إسبانيا»، داخل الاتحاد الأوروبي «صريحًا»، وحثوا «بروكسل»، مرارا على الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار لدواعِ إنسانية.
وبعد دخول الحرب شهرها الثالث، وفشل عدة قرارات من «مجلس الأمن» التابع للأمم المتحدة والجمعية العامة بشأن الدعوة إلى وقف فوري لأعمال العنف؛ أبدت كل من «باريس»، و«لندن»، و«برلين»، قبولها للحاجة إلى وقف إطلاق النار؛ ووضع حد للمعاناة الإنسانية داخل غزة، على الرغم من أنه لا تزال هناك اختلافات بينها حول متى يجب الدفع إلى ذلك، وما الشروط التي يجب الوفاء بها أولاً.
وهذا يعني أن هذه القرارات قد تزيد من عزلة «الولايات المتحدة»، الدبلوماسية – بسبب دعمها المستمر واللامحدود لإسرائيل «سياسيًا وعسكريًا» – عن بقية المجتمع الدولي، حيث ترفض تغيير موقفها للانضمام إلى بقية دول العالم في الدعوة إلى وقف العدوان.
ومع تسجيل وسائل الإعلام الغربية كيف أن تصاعد حرب إسرائيل على غزة أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية هناك، حيث استشهد قرابة 20 ألفا (بينهم ما يربو على 7 آلاف طفل، و5 آلاف امرأة)، وتجاوز عدد المصابين 55 ألفا (بينهم أكثر من 75% أطفال ونساء)، وتدمير أكثر من 70% من المنازل، ونزوح نحو 1.9 مليون شخص؛ بسبب حملات القصف التي اعترف الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، نفسه أنها حملات «عشوائية»؛ فقد تزايدت الإدانات الدولية لهذه الجرائم ضد المدنيين. وأدانت «منظمة الصحة العالمية»، قوات الاحتلال لتحويلها مستشفيات غزة إلى «حمام دم»، واتهمتها منظمة «هيومن رايتس ووتش»، باستخدام التجويع كـ«سلاح حرب» ضد الفلسطينيين، ووصف «المجلس النرويجي للاجئين»، ما يحدث في غزة بأنه «نهاية العالم الإنسانية».
وإلى جانب التضامن مع سكان غزة في جميع أنحاء العالم، واستحضار الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش»، للمادة (99) من ميثاق الأمم المتحدة لأول مرة خلال فترة ولايته؛ فقد صوتت 153 دولة في «الجمعية العامة»، للأمم المتحدة في 12 ديسمبر للدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار. وعلى الرغم من أن هذا القرار غير ملزم، فقد صوتت «الولايات المتحدة» ضده، بينما امتنعت «المملكة المتحدة»، و«ألمانيا» عن التصويت إلى جانب 21 دولة أخرى.
ودليلًا على مدى قوة الضغط العالمي على الحكومات الغربية، والتصدي لدعمها شبه الكامل للعدوان الإسرائيلي على غزة؛ انضمت «لندن»، و«برلين»، يوم 17 ديسمبر، إلى «باريس»، في إعلان تغيير موقفها ودعم وقف إطلاق النار في القطاع، حيث دعمت الدولتان تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة -المذكور أعلاه – على وقف فوري لإطلاق النار، وانضمت بالفعل إلى الدول الأوروبية الأخرى؛ مثل (السويد، بولندا، الدنمارك، اليونان، بولندا، وفنلندا)، في التحول من الامتناع عن التصويت إلى الموافقة.
علاوة على ذلك، دعت وزيرة الخارجية الفرنسية «كاثرين كولونا»، قبل زيارتها إلى إسرائيل مؤخرا؛ إلى «هدنة فورية ودائمة»، تؤدي إلى «وقف دائم لإطلاق النار؛ بهدف إطلاق سراح جميع الرهائن، وتوصيل المساعدات إلى غزة». وكتب «ديفيد كاميرون»، وزير الخارجية البريطاني، إلى جانب «أنالينا بيربوك»، وزيرة الخارجية الألمانية في صحيفة «صنداي تايمز»، أن حكومتيهما تدعم الآن ما أسموه «وقف إطلاق النار المستدام» في غزة.
وعلى الرغم من إقرار كل من «برلين»، و«لندن»، بالكارثة الإنسانية داخل غزة، والحاجة الملحة لزيادة المساعدات والإغاثة للمدنيين؛ إلا أن التحول في السياسة البريطانية والألمانية لم يصل إلى حد الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، حيث تصور «كاميرون»، و«بيربوك»، أن حكومتيهما لا تريان في «الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار»، هي «الطريق إلى الأمام»، على أساس أن «وقف إطلاق النار غير المستدام»، سوف ينهار بسرعة، وسيؤدي فقط إلى زيادة صعوبة إرساء الثقة اللازمة للسلام.
ومع أن القوى الغربية الأكثر نفوذا في أوروبا، قد غيرت مواقفها تجاه التوصل إلى نهاية دبلوماسية للحرب في غزة، كما أوضح «جون راثبون»، و«سارة وايت»، في صحيفة «فاينانشال تايمز»؛ إلا أنها تواصل السير على «مسار دبلوماسي دقيق يحافظ على دعم إسرائيل في حربها، وفي نفس الوقت، تسعى أيضًا إلى كبح جماح العمليات العسكرية الإسرائيلية، والدعوة إلى حل الدولتين».
وكدليل على أن الدعم الذي تقدمه «المملكة المتحدة»، للدفاع عن إسرائيل -فوق كل الاعتبارات الأخرى – يُضعف التزامها بالسلام، وحماية حقوق الإنسان للمدنيين؛ فقد أوضح «أوليفر دودن»، نائب رئيس الوزراء البريطاني: أن دعم حكومته لوقف إطلاق النار، مشروط بوقف «تهديد حماس لإسرائيل»، وعندما سُئل عما إذا كان الجيش الإسرائيلي، قد تصرف بشكل غير متناسب في حربه ضد غزة، قال إنه «لن يصف الأمر بأن إسرائيل قد تمادت في ردها»؛ ولكن بدلاً من ذلك «تتعامل مع أمر بالغ الصعوبة».
وإلى جانب الالتزام المشكوك فيه من جانب الدول الأوروبية بوقف إطلاق النار في غزة، يُضاف إلى ذلك، استمرار رفض «إدارة بايدن»، الاعتراف بإدانة بقية المجتمع الدولي، وإظهار القيادة الأخلاقية والسياسية في دعوة إسرائيل إلى وقف حربها على المدنيين. وعلى الرغم من أن «ماكيرنان»، قد أوضحت أن «واشنطن»، «تضغط على إسرائيل منذ أسابيع لتقليص عملياتها في غزة، ومشاركة خطط قوية حول كيفية انتهاء الحرب، وتوقع من سيسيطر على القطاع عندما يتوقف القتال»؛ فقد أشارت «ماكيرنان»، إلى أنها «لا تزال توفر غطاءً عسكريًا ودبلوماسيًا قويًا» لإسرائيل.
وبالإضافة إلى استخدام حق النقض «الفيتو»، ضد قرار «مجلس الأمن»، بشأن وقف إطلاق النار؛ فقد واصلت «الولايات المتحدة»، إرسالها أنواعا مختلفة من الأسلحة الفتاكة إلى إسرائيل من دون تطبيق أي شروط على استخدامها ضد أهداف مدنية، وهو مستوى الدعم الذي حث به «ديلان ويليامز»، من «مركز السياسة الدولية»، على مزيد من المساءلة؛ في ضوء أن الأرقام المسجلة للضحايا المدنيين في غزة، «هي دليل ظاهر على أن إسرائيل لم توفي بالتزاماتها بموجب القانون الدولي والإنساني، باتخاذ الاحتياطات اللازمة لتجنب وقوع خسائر في صفوف المدنيين، وإلحاق الضرر بالبنية التحتية المدنية».
علاوة على ذلك، فإن اعتراف «بايدن» نفسه بأن إسرائيل «بدأت تفتقد الدعم والمساندة»، في جميع أنحاء العالم؛ هو اعتراف يتماشى مع الإدانة الدولية لها لكيفية انتقامها من الأطفال والنساء والمسنين من المدنيين، وهو ما استنكرته الكثير من الدول، ومنظمات حقوق الإنسان، ومئات الآلاف من المتظاهرين في المدن الكبرى، مثل لندن ونيويورك وباريس وبرلين ومدريد ودبلن وغيرها من العواصم والمدن الكبرى في العالم.
وفي واقع الأمر، فإن «الولايات المتحدة»، ليست وحدها من ترفض دعم وقف إطلاق النار في غزة على الرغم من تزايد المجموعة الدولية المؤيدة له. وبالفعل، فشل «الاتحاد الأوروبي»، في مراجعة موقفه على الرغم من تصعيد إسرائيل للعنف. وأكد «شارل ميشيل»، من «المجلس الأوروبي»، دعم «بروكسل»، المستمر لإسرائيل والالتزام بموقفها بشأن الحرب، والذي قادته رئيسة المفوضية الأوروبية، «أورسولا فون دير لاين». وفي رسالة إلى «التكتل»، من قِبل «إيف غيدي»، مديرة «منظمة العفو الدولية»، في أوروبا، أكدت أن «الاتحاد الأوروبي»، من خلال «تقاعسه، يسهم في التجرد من الإنسانية وتأجيج التطرف».
على العموم، فإنه على الرغم من أن التحولات الخجولة في مواقف كل من «لندن»، و«برلين»، تجاه وقف إطلاق النار في غزة، هي دليل على مدى تأثير الضغط الدولي عليها لمراجعة سياساتها، اعترافا بقوة الإدانة الدولية للجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين؛ فإن الواقع يُظهر أن الدولتين، مازالتا غير ملتزمتين بالحاجة إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية. علاوة على ذلك، فإنه من دون دعم عملية السلام من «الولايات المتحدة»؛ تحتفظ إسرائيل بأقوى داعم لها لمواصلة الحرب.
ومع غياب القيادة الغربية عن عملية صنع السلام في الشرق الأوسط لفترة طويلة، وإخفاقها في التعامل مع ما يحدث من جرائم في غزة والضفة الغربية، تضاءلت الثقة الدولية في «الولايات المتحدة»، وغيرها من الدول الغربية التي نصبت نفسها، مسؤولة عن الأمن والاستقرار في المنطقة، إلى الحد الذي باتت معه «منعدمة»، وذلك في ظل تبنيها لسياسات تتجاهل محنة الفلسطينيين، لصالح الروايات الإسرائيلية المختلقة والمضللة؛ ما جعل الأمل في إمكانية إنهاء هذه الدائرة من القمع والعنف في الأراضي المحتلة، يصل إلى أدنى مستوياته على الإطلاق. وفي ضوء هذا الوضع، خلص «مارتن غريفيث»، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، إلى أنه لا يعتقد أننا «بلغنا منتصف الطريق» في الحرب على غزة، وأن هناك احتمالاً بأن «أمامنا أسابيع وأسابيع قبل أن تضع هذه الحرب أوزارها».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك