سؤالٌ لا محلّ له من الانتباه في سياق المذابح اليومية التي يرتكبها الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة منذ 7 أكتوبر، أي بعد مرور ما يقرُب من الشهرين ونصف الشهر، ولا أظن أن غزّة، المشغولة بصدّ العدوان والمقاومة المستمرّة بكل ما تملك، تفكّر فيه. لكنه سؤال مهم بالنسبة إلينا، نحن الواقفون حول النار بدوائر تصغُر وتكبُر.. من دون أن نجرُؤ على الدخول ولا على الابتعاد.
وهو سؤالٌ يراود كثيرين منّا لأنه سؤالٌ جارح، وإن حاول بعضنا تجاهله بقليل من التشاغل، وأحيانا بمزيد من إبداء الاهتمام بما يحدُث لغزّة وفي غزّة ومن غزّة، على اعتبار أن هذا الاهتمام سيخفّف من وقع السؤال، ويقلّل من حجم جُرحه الدامي.. لكنه لا يفعل.
من حقّ غزّة ألا تسامحنا أبدا.. أبداً. من حقها أن تمضي، بمفردها، عندما يكتمل تحقّقها النهائي ككيان إنساني مستقل بذاته بعد خروجها من نار الانصهار منتصرة على ذاتها، قبل أن تنتصر على الخصم والآخرين، بغضّ النظر عن توصيفهم، ودرجة علاقتها بهم.
من حقّ غزّة ألا تسامحنا أبداً، وإن أبديْنا التعاطف معها في ظلّ القصف الصهيوني المتواصل عليها، أرضاً وبشراً وشجراً ومستشفياتٍ ومدارس وبيوتاً ومساجد وشوارع.
من حقّها ألا تسامحنا أبداً، حتى بعد أن تتجاوَز المأساة، ويعود كل شيء إلى طبيعته القديمة (هل سيعود إلى طبيعته القديمة حقاً؟ أم سيتجاوزها إلى الطبيعة التي تليق به؟)، وتصبح الأحداث ذكرياتٍ مؤذيةٍ، ويصبح صوت القصف مجرّد وهمٍ آتٍ من الماضي وحسب، وتصبح الأصوات الآتية من تحت الرّكام والأنقاض أضغاث أحلام وكوابيس يسهُل علاجُها مؤقّتاً.
من حقّ غزّة ألا تسامحنا أبداً، نحن الذين وقفنا على السياج للفرجة والتأسّي، وربما الصراخ، وأحيانا إلقاء بعض الفتات، كلما سمح لنا العدوّ بفتح المعبر.
من حقّ غزّة ألا تسامحنا أبداً، نحن الذين زعمنا أننا لا نملك سوى الدعاء والكتابة وقليل من التبرّعات التي لا نعرف إن كانت ستصل إلى من يستحقّها أم لا، وركنّا إلى هذا الزعم المريح لضمائرنا، حتى لا نتعذّب ونحن نجلس أمام الشاشات الصغيرة والكبيرة لنتابع ما يجري وكأنه فيلم رعبٍ نتحاشى أن يشاهده أطفالنا الصغار.
من حقّ غزّة ألا تسامحنا أبداً، وألا تقبل أعذارنا السمجة، والتي نحاول أن نقنع بها بعضنا بعضا، خوفا ورهبة مما قد يحدُث لنا إن عبّرنا بصراحة عما يحدث، وأشرنا بوضوح إلى المسؤول عنه، وقاومنا ضعفنا بالإصرار على الذهاب الصريح إلى إدانة من أسهم بصمته وخنوعه في أفضل درجات الظن.
من حقّ غزّة ألا تسامحنا أبدا، وقد أسلمناها لعدوّنا الشرس، فحاربت سنواتٍ طويلةً نيابة عن الجميع، وقاومت نيابة عن الجميع.
من حقّ غزّة ألا تسامحنا أبدا، وإن كانت تعرف، قبل غيرها، أننا منهزمون، وأنها وحدها التي تمضي إلى نصرها الحقيقي الباقي الواضح الكبير. وأننا منخذلون، وأنها وحدها القادرة على انتشالنا في لحظةٍ لا بد أنها قادمة من حفرة الخذلان.
وأننا خائفون، وأنها وحدها الشجاعة التي تعرف كيف تستثمر هذه الشجاعة في مواجهة العدوّ، وقد فعلت ذلك مرارا، وهي تفعله مجدّدا، وأننا ضعفاء، وأنها وحدَها القوية الصامدة الصلبة في مواجهة كلّ شرور العالم، وأننا خاضعون للوهم والشكّ، وأنها وحدَها الواثقة بما تملك، وبما يملكه شعبُها من قوّة ومن رباط الخيل، لتُرهب به عدوّها وعدوّنا.. وأنها وحدها المتصدّية الشرسة في الحرب وفي السلام أيضا. وأننا العرب من غيرها، وأنها وحدها غزّة.
{ كاتبة وشاعرة كويتية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك