بينما كنت أشاهد جلسة استماع مجلس النواب الأمريكي التي أُعدّت لقصف الحرية الأكاديمية بالجامعات الأمريكية، تذكرت كل ما قرأت عن فترة المكارثية البغيضة في الخمسينيات. وقتها وفي أوج الحرب الباردة، أعلن السيناتور جوزيف مكارثي أنه يملك قائمة تضم أسماء «لشيوعيين» يحتلون مواقع عدة «يخونون البلاد ويمثلون خطرًا على أمنها القومي».
وقام من خلال لجنة ترأسها بالمجلس بحملة كانت نتيجتها اضطهاد المئات وطردهم من مناصبهم بوزارتي الخارجية والدفاع والجامعات، وملاحقة فنانين وأدباء.
أما المكارثية الجديدة بالكونجرس فتقوم هذه المرة، دعمًا للاحتلال الإسرائيلي! وهي مكارثية لأن المصطلح صار، اليوم، يطلق على كل اتهامات، تُساق من دون دليل، لإسكات المعارضين وقمع آرائهم.
فالتحول الحقيقي في الرأي العام الأمريكي بعد أن صار يشهد، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بالصوت والصورة جرائم الاحتلال ضد المدنيين في غزة، صار مصدر قلق عميق لدى أنصار إسرائيل، وهم من صارت أغلبيتهم على يمين الساحة الأمريكية.
ومن هنا، غدت قوى اليمين الأمريكي بفصائله المختلفة تسعى لإسكات الأصوات التي تفضح الاحتلال أو تدعم الفلسطينيين.
لكن تلك القوى اليمينية تسعى أيضًا لتصفية حساباتها مع اليسار التقدمي، لا الليبراليين، إذ بات اليسار، بما في ذلك اليسار اليهودي، هو الأكثر دعمًا لحقوق الفلسطينيين. وقوى اليمين تسعى أيضًا لتصفية حساباتها مع الأكاديمية التي تعتبرها معقلًا لليسار.
لذلك وجد اليمين فرصته الذهبية، فاستخدم، بكل انتهازية، حكاية «معاداة السامية»، رغم أنه متهم بها بالمناسبة! ففي اجتماع للجنة التعليم بالمجلس التي استدعت ثلاثة من رؤساء الجامعات الأمريكية، هارفارد وبنسلفانيا وإم آي تي، قامت النائبة الجمهورية إليز ستيفانيك، المعروفة بمواقف شديدة التطرف، باستخدام تعبيرات تمثل جهلًا متعمدًا بهدف توجيه اتهامات للرؤساء الثلاثة لا أساس لها ولا دليل عليها.
فهي، مثلًا، استخدمت كلمة «انتفاضة» لتتهم الجامعات ليس فقط «بمهادنة العداء للسامية» وإنما بأنها لا تمانع من ارتكاب جرائم «إبادة جماعية»!
فهي قالت إن الانتفاضة حين يستخدمها شباب الجامعات الثلاث معناها «ارتكاب إبادة جماعية لليهود في إسرائيل وحول العالم»!
والمؤسف حقًا أن أيًا من الرؤساء الثلاثة لم يصحح معنى «الانتفاضة»، قبل أن تدخل السجلات الرسمية للكونجرس، إما جهلًا بمعنى الكلمة العربية وإما ارتباكًا لشراسة الهجوم، وكلاهما ليس مبررًا من رؤساء جامعات القمة.
وقد أدت جلسة الاستماع، المكارثية بامتياز، إلى استقالة رئيسة جامعة بنسلفانيا، بينما لم تخل محاكم التفتيش تلك من عنصرية بغيضة.
فأول رئيسة من السود لجامعة هارفارد، كلودين جيي، كانت الأكثر تعرضًا للانتقادات الفجة، داخل اللجنة بل وخارجها، إذ زعم أنصار إسرائيل زورًا أنها اختيرت لمنصبها لأسباب لا علاقة لها بكفاءتها وإنما للوفاء بشروط «التعددية العرقية»!
وقد تعرض الطلاب بالجامعات الأمريكية كافة لحملات إرهاب وصلت إلى حد تسيير عربات تحمل صورهم وأسماءهم تطوف جامعاتهم ومواقع عملهم لاغتيالهم معنويًا وكدعوة لاستهدافهم.
وما جرى بجلسة استماع لجنة التعليم لم يكن وحده ما جرى بمجلس النواب.
فقد وافق المجلس بأغلبية الجمهوريين، والديمقراطيين «الليبراليين»، بالمناسبة، على قرار يعتبر «معاداة الصهيونية ومعاداة السامية» شيئًا واحدًا، بل قدم جمهوريون وديمقراطيون مشروع قانون آخر يهدف شكليًا لإنشاء لجنة «لدراسة معاداة السامية» بأمريكا، بينما تفضح حيثيات المشروع الهدف الحقيقي، أي إسكات معارضي الاحتلال الإسرائيلي.
أما لوبي إسرائيل فقد استعد بملايين الدولارات لينفقها في انتخابات 2024 من أجل هزيمة تيار اليسار التقدمي بالكونجرس، وأغلبية أعضائه، بالمناسبة، من النساء غير البيض!.
{ باحثة في العلوم السياسية مختصة في الشؤون الأمريكية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك