وافق العاشر من ديسمبر الذكرى الـ«75» لاعتماد اليوم العالمي لحقوق الإنسان من قبل الأمم المتحدة؛ والتي وصفتها منظمة العفو الدولية، بـ«خارطة الطريق نحو الحرية والمساواة»، واعتبرت بمثابة وثيقة قننت حقوق الأفراد من أجل السلام والعدالة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى إتاحتها حرية أكبر لكل من الدين والتظاهر والتعبير وغيرها.
وتعد وثيقة حقوق الإنسان، الإعلان الأول من نوعه الذي ربط دول العالم بالتزام مشترك بحماية حقوق الإنسان بموجب القانون الدولي. وأوضح هيو ويليامسون، من منظمة هيومن رايتس ووتش، أن المغزى منه هو الإقرار بأن كل شخص متساو في الحقوق؛ بما فيها الحق في الحياة، والتنقل، واللجوء، والتملك، والتعليم، والمستوى المعيشي اللائق، والمحاكمة العادلة، والمواطنة، والجنسية، والتحرر من العبودية، وعدم التعذيب، والاعتقال والاحتجاز التعسفي، والمساواة أمام القانون، وكذلك اليقين بأنه لا يحق لأي سلطة أن تسلب هذه الحريات.
ومن خلال الإقرار بأن تلك الحقوق والحريات -المتأصلة وغير القابلة للتصرف- سُميت بحقوق الإنسان مع اختلاف أنظمة الحكم والتقاليد والثقافات، والإقرار بأنها حق للجميع دون تمييز على أي أساس؛ فقد أشار جون ريتشموند، من المجلس الأطلسي، إلى أنه مع وجودها –آنذاك- كان هناك هجوم وانتقادات ضد التمييز الطبقي في الهند، وقوانين جيم كرو، في الولايات المتحدة، والإبادة الجماعية للأرمن، من بين العديد من المظالم المعاصرة الأخرى.
وعلى الرغم من احتفال منظمات حقوق الإنسان، والنشطاء بهذه المناسبة، كخطوة تاريخية في النهوض بالحقوق والحريات الفردية حول العالم؛ فقد تصدرت تلك الذكرى النقاشات الغربية؛ بسبب الفشل الواضح حاليًا في حماية حقوق المدنيين في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد الحملة العسكرية الهمجية التي تقوم بها إسرائيل، وأدت إلى استشهاد قرابة 20 ألفا (بينهم ما يربو على 7 آلاف طفل، و5 آلاف امرأة)، بينما تجاوز عدد المصابين 55 ألفا (بينهم أكثر من 75% أطفال ونساء)، فضلا عن تدمير أكثر من 70% من المنازل، و1.9 مليون نازح، وتدمير البنى التحتية، ووضع القطاع تحت الحصار، ومنع دخول الغذاء، والدواء، والماء، والوقود بما يعد جرائم إبادة جماعية.
ونتيجة لذلك، اعترف المتحدثون والناشطون في هذا المجال خلال الاحتفال بهذه الذكرى في جنيف، بالفجوة الحادة بين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وواقع هذه الحقوق حول العالم. ورأي فولكر تورك، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، أن هذه الاتفاقية كان لها تأثير عالمي ملحوظ في السعي نحو تحقيق المساواة، والتقدم في مجال التعليم، والصحة، وتفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا؛ إلا أن النظام الدولي لا يزال بعيدًا عن العالم الذي تصوره واضعو الإعلان، وعليه، أكد أنه من الضروري إعادة بناء أساس الأمل في هذه اللحظة المظلمة من التاريخ واستعادة الثقة في المؤسسات التي تقودنا لذلك، والتي اعترف بأنها الآن في حالة سقوط.
وفي بيان صادر عن المقرر الخاص والخبراء المستقلين في مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة؛ تم تأكيد أن هذه الذكرى تسلط الضوء على كيف تواجه المنظمة الدولية اختبارات وتحديات غير مسبوقة؛ بسبب فشل الدول الأعضاء في دعم القيم المنصوص عليها في الإعلان العالمي. وعلى وجه الخصوص، كانت معاناة المدنيين الفلسطينيين في غزة النموذج الأبرز فيما يتعلق بهذا الفشل. وعلق جان صامويلر، رئيس منظمة العفو الدولية، في فرنسا، بأن المخاوف الرئيسية لمنظمات حقوق الإنسان، فيما يتعلق بالالتزام بالإعلان العالمي، تتركز على كيفية قيام إسرائيل بانتهاك حقوق الإنسان بشكل منهجي، دون احترام لحياة الإنسان أو كرامته.
وفي هذا الصدد، تمت الإشارة إلى التزام الدول الغربية الصمت تجاه قصف قوات الاحتلال الإسرائيلي الوحشي لغزة. واتهمها فيليب لازاريني، من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، (الأونروا)، بقطع الوصول إليها، واستخدامها للغذاء والماء، كأسلحة حرب ضد المدنيين. وأشارت منظمة العفو الدولية، إلى أن هناك معايير مزدوجة، من قبل الغرب، فيما يتعلق بتطبيق قانون حقوق الإنسان في النزاعات بجميع أنحاء العالم.
وعلى سبيل المثال، بينما في أوكرانيا، أدانت الدول الغربية الهجمات الروسية بحق الأهداف المدنية، ودعمت الجهود الدولية لمحاكمة قادتها؛ فإنه في حالة فلسطين، قدمت هذه الدول الدعم الكامل لإسرائيل للعدوان على غزة، وقام الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ورئيس وزراء بريطانيا والرئيس الفرنسي والمستشار الألماني بإمدادها بالمعدات والذخائر لاستخدامها في الهجوم. ومن خلال القيام بذلك، فضلاً عن عرقلة قرارات مجلس الأمن، بشأن وقف إطلاق النار؛ اتهم لويس شاربونو، من هيومن رايتس ووتش، واشنطن، بالتواطؤ المباشر في جرائم الحرب والمشاركة فيها.
ولا تقتصر الإخفاقات الغربية في حماية حقوق الإنسان على فلسطين. ففي حالة غزو العراق عام 2003، تركته أمريكا وبريطانيا دولة فاشلة. وسجل برنامج الأغذية العالمي، أن أكثر من 30% من العراقيين عاشوا في فقر لما يقرب من عشرين عامًا بعد الغزو. وأوضحت منظمة العفو الدولية، كيف تعرض الملايين من المدنيين للموت، والجرح، والتهجير، والاحتجاز والتعذيب، والتمييز، والحرمان من العدالة بشكل غير قانوني، في حين أن المساءلة لا تزال بعيدة المنال عن الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير آنذاك.
وعلى الرغم من ذلك، نصبت الدول الغربية نفسها كحامية لحقوق الإنسان الدولية مع أن لديها تاريخا مخزيًا في تجاهلها وانتهاكها. وأشار المعلقون إلى المفارقات القاتمة في هذه الذكرى، بالنظر إلى حرمان الفلسطينيين من الحقوق الأساسية في الحياة، الكريمة، وتقرير المصير، طيلة 75 عامًا منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
بالإضافة إلى ذلك، تمت الإشارة إلى عدم التزام الدول الغربية بالإعلان العالمي داخل حدودها. وأشار ويليامسون، إلى إخفاق الدول الأوروبية في الالتزام بوثيقة حقوق الإنسان فيما يتعلق باللاجئين وما يواجهون من تمييز، حيث تمثل العنصرية مشكلة كبيرة في القارة. وأضافت سيسيليا بيليت، الخبيرة المستقلة لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، أن سياسات بروكسل، تجاه المهاجرين لم تؤد إلى انتهاكات إجرائية فحسب، بل أيضًا إلى انتهاكات للحق في الحياة، وحتى المعاملة اللاإنسانية التي تصل إلى حد التعذيب في حالات الاحتجاز.
وفي حالة المملكة المتحدة، تسببت معاملتها لطالبي اللجوء في إثارة الذعر إزاء تجاهل القانون الدولي. وأشارت راشمين ساجو، من المعهد الملكي للشؤون الدولية، إلى مشروع قانون ترحيل المهاجرين إلى رواندا -والذي يهدف إلى إرسال طالبي اللجوء إليها بشكل غير قانوني إلى إفريقيا- والذي أعلنت المحكمة العليا، لديها أنه غير قانوني، كما علق روبرت سبانو، الرئيس السابق للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن مثل هذا الإجراء يقوض مكانة بريطانيا التاريخية، باعتبارها إحدى الدول الرائدة عالميًا في سمو نظامها القانوني الدولي، وخلص إلى أنه إذا تم إقراره فسوف يؤدي إلى التعجيل بانهيار صورتها التي تعتز بها.
واعترافًا بفشل المجتمع الدولي في دعم حقوق الإنسان، والإعلان العالمي كما ينبغي؛ أوضح تورك، كيف أن الأزمات الإنسانية الدولية السابقة والحالية هي عواقب الفشل في دعم حقوق الإنسان، وليست المشكلة الأساسية إخفاق هذه المبادئ نفسها.
ومع ذلك، تم الاعتراف بأنه لا تزال هناك ثغرات في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتنفيذه على أرض الواقع. وأشار ريتشموند، إلى أن أحكامه بشأن الاتجار بالبشر لا تزال بحاجة إلى إنفاذ أقوى، في ضوء أن المادة (4) من الإعلان تحظر الرق، والاتجار بالرقيق. وعلى الرغم أنه منذ عام 2000، مررت كل دولة في العالم نوعًا ما من القوانين ضد العبودية الحديثة، فإن التقديرات تشير إلى أنه لا يزال هناك أكثر من 26 مليون نسمة حول العالم يعيشون تحت وطأة العبودية القسرية.
علاوة على ذلك، فإنه في حين أن الوثيقة قد وضعت أسسا للحقوق المدنية والسياسية ونصت بشكل واضح على أن إرادة الشعب يجب أن تكون مصدر السلطة، التي يتم التعبير عنها من خلال انتخابات حقيقية دورية، فقد أكدت منظمة فريدم هاوس، في تقريرها لمؤشر الحرية العالمي لعام 2023 أن 80% من سكان العالم يعيشون في بلدان تم تسجيلها على أنها ليست حرة سياسيًا.
ومع الاعتراف بوجود قصور في الإعلان، فقد أصر تورك، على أنه سيكون من الخطأ رفضه، باعتباره من بقايا زمن كان أكثر اعتدالاً، وتفاؤلاً، مستشهدا بأنه كان نتاج حقبة مزقتها حلقات مفرغة من الدمار والإرهاب والفقر، والانقسام الأيديولوجي. وفي حين أوضحت إيريكا هاربر، من أكاديمية جنيف للقانون الإنساني الدولي، أن الحُكم على أن أهميته تكمن في كيفية تحديده للحظة التي يمكن فيها لجميع الدول أن تتحد وتلتزم بالمبادئ الأساسية التي ينبغي أن تحكم وتضبط الإنسانية بأكملها؛ فقد أوضح آخرون أنه يمكن أن يُحتذى به في عصر الصراعات الحالية من أجل وضع خارطة طريق، قادرة على ترسيم مستقبل أكثر إيجابية وسلامًا وعدالة.
من جانبه، رأى ريتشموند، أنه حتى لو كان العالم يشعر بأنه منقسم أكثر من أي وقت مضى، فإن حقيقة أن 192 دولة عضو في الأمم المتحدة؛ تعطي بارقة أمل، حال توافقت حيال حماية حقوق الإنسان.
من هذا المنطلق، أوضحت ماري جليندون، من جامعة هارفارد، أنه رغم أن الوثيقة أصبحت رمزا لكثير من الحركات الشعبية التي عجلت بهزيمة وزوال جور الاستعمار، فإنها تظل بلا أدنى حماية من القوى العظمى، بل إن تحالفا من الدول الأقل قوة هو من يكفل حماية حقوق الإنسان تحت مظلة الأمم المتحدة، مؤكدة أن الجهود الحالية الرامية إلى تشكيل مؤتمر عالمي لإعادة تأكيد الالتزامات المتعلقة بحقوق الإنسان يقف وراءها دبلوماسيون وناشطون ليسوا من الغرب، بل من إندونيسيا وأمريكا اللاتينية، وأجزاء أخرى من العالم، حيث لا تزال معايير هذا الإعلان تتمتع بثقل وتأييد كبيرين.
وفي الواقع، لا يمكن التقليل من أهمية الإعلان العالمي الذي سمح بتحسين أوضاع حقوق الإنسان، والظروف المعيشية لملايين الأشخاص في العالم. ورأت هاربر، أن العالم لا يزال يحظى باحترام أكبر بكثير وحماية أفضل لحقوق الإنسان مما كان عليه عام 1948، وسلطت بيليت، الضوء على أنها مازالت تشعر بحماسة مظاهرات التضامن التي تجتاح كل مدينة من مدن العالم تقريبًا، كرد فعل حيال أية انتهاكات قد تؤثر في حياة المواطنين في مناطق مختلفة.
وبالمثل، أشارت جليندون، إلى أنه ساعد الملايين على تحقيق مستويات أفضل للحياة والحرية بصورة أكبر، وخلص ريتشموند، إلى أن الحقوق المعلنة به صمدت أمام اختبارات وتحديات الزمن، وتظل ذات معنى اليوم أكثر من أي وقت مضى.
على العموم، في الذكرى الخامسة والسبعين لإعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، فإن أهميته الدائمة تكمن في الوعد بتفعيل الحقوق الواردة به، واعتبارها حلولا للقضايا العالمية محل الصراع، وكما أشار تورك، فإن مبادئ حقوق الإنسان، هي أفضل حل للمشكلات الحقوقية الراهنة.
ويبقى أن الإخفاقات غير المسبوقة في جميع أنحاء العالم في دعم حقوق الإنسان والقانون الدولي، تشير إلى أن الديمقراطيات ليست محصنة ضد الهجمات على سيادة القانون، وأنها مستعدة للتنصل من التزاماتها الدولية، تجاه حماية حقوق الإنسان وفقا لمصالحها الخاصة، وهو الأمر الذي يجدد الدعوة للمحافظة على ما تبناه الإعلان من أفكار نبيلة لجعلها حقيقة على أرض الواقع. وبالتالي، فإن هذه الذكرى بمثابة فرصة للإصرار على الالتزام بهذه المبادئ.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك