يزداد الخطاب الإسرائيلي، خطاب الحرب، حدة بأهدافه المرتفعة منذ اليوم الأول وغير القابلة للتحقيق كما تبين منذ شهرين ونيف من الحرب من جهة ويزداد العدوان الإسرائيلي على غزة عنفا واتساعا بهدف «تنظيف» شمال القطاع كليا من أهل غزة تحت عنوان التخلص من حماس وخلق المنطقة الآمنة المطلوبة كهدف أولي بالطبع ودفع السكان نحو جنوب القطاع لمحاصرتهم وبالتالي العمل على خلق الظروف الضاغطة لتهجيرهم لاحقا من جهة أخرى.
يظهر هذا العدوان المتصاعد حجم المأساة التي يعيشها أهل غزة من جهة وحجم المأزق الإسرائيلي من جهةٍ أخرى من حيث عدم القدرة على تحقيق الأهداف المتوخاة والمعلنة في حرب الإخضاع والإلغاء التي أطلقتها إسرائيل.
أهداف استراتيجية صعبة التحقيق تترك تداعياتها أيضا على كل جوانب الوضع في إسرائيل، إذ سيعاني الاقتصاد الإسرائيلي من ركود قوي نتيجة انهيار الاستثمارات الخارجية والخسائر الكبيرة التي أصابت القطاعات الاقتصادية الأساسية في إسرائيل في حرب تبدو مفتوحة في الزمان وقد تتوسع في المكان. ويرى أكثر من اقتصادي إسرائيلي أن السنة القادمة ستكون سنة قاتمة على هذا الصعيد.
عدم القدرة على تحقيق هدف إخضاع قطاع غزة كليا يرجح سيناريو دخول إسرائيل في حرب طويلة أو ممتدة في القطاع، الأمر الذي يدل على حجم المأزق التي وضعت إسرائيل نفسها فيه.
لجوء الأمين العام للأمم المتحدة إلى استعمال صلاحياته الخاصة الذي تمنحه إياها المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة لتنبيه مجلس الأمن إلى الخطر الذي يهدد السلم والأمن الدوليين، لم يمنع الولايات المتحدة من استعمال حق النقض للإطاحة بمشروع القرار الذي دعا إلى «وقف إطلاق نار إنساني فوري».
وللتذكير فإن هذه الخطوة قد استعملت مرات قليلة في تاريخ المنظمة الدولية في الحالات التي وجد فيها الأمين العام للمنظمة الدولية أن هنالك أزمة حاملة لتهديدات كبيرة غير عادية إذا لم يتم احتواؤها، منها عام 1989 بشأن لبنان وحدة الأزمة وتداعياتها الخطيرة التي كان يعيشها حينذاك.
البعض يقول إن واشنطن قد أعطت إسرائيل فترة زمنية محددة، هنالك خلاف حول مدتها بين أصحاب هذا الرأي، قاربت على نهايتها لإنهاء العملية العسكرية بحجمها وقوتها والتي لا يمكن أن تستمر بهذا الشكل. وبعدها سيجري العمل على بلورة تسوية يجب أن تحفظ ماء الوجه للسلطة في إسرائيل وأن تحقق لها أبرز أهدافها في إضعاف ومحاصرة وتهميش دور حماس وإخراجها من اللعبة إذا لم يكن من الممكن كما هو واضح التخلص منها كليا، كما أعلنت إسرائيل ذلك في اليوم الأول للحرب.
الدعم الأمريكي لإسرائيل والموقف الذي يراوح بين الدعم والتفهم الأخذ بالتراجع ببطء وبسرعات مختلفة عند مجمل وليس كل القوى الأوروبية، أسهم ويسهم في تعزيز سياسة التشدد الإسرائيلي. لكن ضغوطات الرأي العام الدولي ومخاطر انفجار الوضع بشكل كبير بأشكال مختلفة في المنطقة من بوابة غزة تسهم في بداية ما زالت خجولة عند هذه القوى المؤثرة بالموقف الإسرائيلي للدفع باتجاه وقف الحرب تحت عناوين مختلفة من أهمها هدنة إنسانية مفتوحة يجري تعزيزها مع الوقت وذلك تلافيا لاستعمال تعبير وقف إطلاق النار.
يتواكب ذلك مع ازدياد سياسات تهويد الضفة الغربية على صعيدي الديمغرافيا والجغرافيا من خلال مصادرة الأراضي، تحت عناوين مختلفة منها إحداث تواصل جغرافي بين المستوطنات، وكذلك إقامة بؤر استيطانية زراعية جديدة وتصعيد واضح في سياسات ترهيب السكان الفلسطينيين عبر أعمال العنف التي يقوم بها المستوطنون المدعومون من القوى الأمنية في هذا الشأن، الأمر الذي يهدد بانفجار الوضع في الضفة الغربية في أي لحظة.
وفي سياق هذه التطورات بدأت إسرائيل بإعادة إثارة موضوع استكمال تطبيق القرار 1701 الخاص بلبنان عبر إخلاء المنطقة الواقعة بين الحدود ونهر الليطاني من أي قوة مسلحة غير الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل تحت عنوان عدم العودة إلى الوضع الذي كان قائما قبل السابع من أكتوبر. الوضع الذي كانت تنظمه قواعد الاشتباك التي تبلورت بعد عدوان صيف 2006.
طبعا الرد من قبل لبنان الرسمي وكذلك حزب الله يعتبر أن إسرائيل لم تحترم تنفيذ القرار 1701 في جميع جوانبه، ومن الأمثلة على ذلك اختراق الطيران العسكري الإسرائيلي للأجواء اللبنانية بشكل متكرر والهجوم على سوريا عبر الأجواء اللبنانية إلى جانب كاميرات المراقبة على الحدود الموجهة نحو كل مناطق جنوب الليطاني.
أضف إلى ذلك أن هنالك مشكلة النقاط الثلاث عشرة الحدودية الخلافية والتي يفترض تسويتها، وضرورة الانسحاب من شمال الغجر وتلال كفرشوبا وهي مناطق لبنانية إلى جانب الانسحاب من مزارع شبعا، رغم أن الأمم المتحدة لا تعتبر أنها تخضع للقرار 425 الخاص بلبنان. استراتيجية «وحدة الساحات» التي أعلنها حزب الله في بداية العدوان على غزة تسهم أيضا في زيادة التعقيدات حول صعوبة العودة إلى الوضع الذي كان سائدا قبل السابع من أكتوبر.
ومن الواضح أن المطلوب بداية التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة قبل البحث الفعلي والجدي ببلورة «قواعد اشتباك جديدة» على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. قواعد تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات التي أحدثتها حرب غزة في الجبهات المشتعلة، عندما تتوقف هذه الحرب. متغيرات تدل على الترابط الفعلي والجديد في بعض أشكاله وفي إدارته بين جبهتي غزة والجنوب مرورا بجبهة الضفة الغربية.
وإلى حين التوصل إلى ذلك، أي وقف الحرب في غزة، ستبقى كل الاحتمالات قائمة بشأن جبهات القتال رغم اختلاف حدة هذه الحروب وطبيعة إدارتها، وستبقى المنطقة على صفيح ساخن وقابلة لحدوث سيناريوهات مستقبلية مختلفة، وذلك رغم الضغوطات الدولية لمنع حدوث حرب مفتوحة على الجبهة اللبنانية.
{ وزير خارجية لبنان الأسبق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك