الحرب النفسية معروفة على مرّ التاريخ في جميع الحروب والصراعات، وكان الزعيم النازي هتلر يرى أن أسلحتهم هي الاضطراب الذهني وتناقض المشاعر والحيرة والتردد والرعب، الذي يدخلونه إلى قلوب أعدائهم، فعندما يتخاذل أعداؤهم في الداخل، ويقفون على حافة الثورة، وتهددهم الفوضى الاجتماعية، تحين الساعة للفتك بهم بضربة واحدة.
هذه الحرب النفسية كانت عاملا أساسيا في اجتياح النازية لفرنسا في زمن قياسي، بسبب قصص الرعب التي نجح إعلام هتلر في ترويجها، رغم ما كان يشاع عن قوة تحصينات خط ماجينو الفرنسي أمام الزحف النازي.
العدو الإسرائيلي ذاته كانت الحرب النفسية هي لب نشاطه الإعلامي في جميع الحروب، التي خاضها ضد العرب، حتى في حرب أكتوبر 1973 التي هزم فيها، حيث كان يروج لأكذوبة خط بارليف الذي لا يقهر، وادعى وصول قواته إلى دمشق وسقوط مدينة السويس المصرية في قبضة يده، في الوقت الذي كان يتلقى الهزائم. وفي الوقت الذي يتخبط إعلام العدو ولا يجد ما يبني عليه إعلان النصر سوى دك المنشآت المدنية في القطاع على رؤوس أهلها واستهداف المساجد والمشافي، وفي حين يعتمد على الترويج لأكاذيب اعتاد الغرب قبولها، كادعاء قطع المقاومة رؤوس أطفال الإسرائيليين، وأكذوبة وجود أنفاق ومقرات لقيادات القسام تحت مجمع الشفاء، ونحوه من الاختلاقات التي ثبت زيفها، نرى في المقابل براعة ومهارة عالية يتمتع بها إعلام حماس في إدارة المعركة الإعلامية. إذ تميز بالاتزان والثبات ونشر الحقائق التي لا يستطيع العدو الصهيوني نفسه دحضها. ظهرت في أداء إعلام حماس، البراعة في استخدام الحرب النفسية ضد العدو، إذ يولي اهتماما فائقا بتوثيق العمليات التي ينفذها رجال المقاومة ضد الصهاينة، حتى تلك التي يتم تنفيذها من المسافة صفر، وهو ما يتطلب جسارة وشجاعة لم يعهد الاحتلال مثلها في صفوفه.
المقاطع المرئية التي يبثها إعلام القسام تثير الفزع في نفوس الصهاينة، عندما يشاهدون بأم أعينهم من يخرجون من الأنفاق ومن بين الأنقاض، ويحصدون جنود إسرائيل وآلياتهم العسكرية، عندما يشاهدون كاميرات فرق الاستطلاع تخرج على مسافة أمتار من خيام الجنود الإسرائيليين لتصوير المشهد، عندما يعتلي القسامي دبابة العدو ويأسر من فيها، أو عندما يتقدم أحد أبطال المقاومة ليشعل النار في مدرعة بقداحته، عندما يشاهدون مقاتلا يحمل على كتفه سلاحا مضادا للدبابات ويطلق وهو يسير بغير تمركز ليصيب هدفه بمهارة، وعندما يشاهدون تطاير أشلاء الجنود الصهاينة، كل هذه المشاهد تثير الفزع في نفوس العدو الصهيوني.
ومن أكثر ما برع فيه إعلام القسام في الحرب النفسية التي يشنها ضد الصهاينة، تعامله مع قضية الأسرى الإسرائيليين في غزة، حيث انتشر مؤخرا هاشتاج «الوقت ينفد»، وهو قائم على أساس مقطع مرئي مهيب بثه إعلام القسام، يظهر الأسرى الإسرائيليين في غزة قبل وبعد أن قصفهم الاحتلال، مع مشاهد للدمار الرهيب الذي يحدثه القصف الإسرائيلي في غزة، ويظهر في الكادر عداد رقمي وعبارة «الوقت ينفد». كما بث رسالة أخرى عبارة عن صورة لأسيرة إسرائيلية تقف في تابوت وهي تجمع كلتا يديها في هيئة استجداء، وأسفل الصورة كتب باللغتين العربية والعبرية: «الخيار لكم، في توابيت أم أحياء».
يتزامن ذلك مع تصريح المتحدث باسم كتائب القسام «أبوعبيدة»، الذي يصب في جانب الحرب النفسية في ما يتعلق بالأسرى الإسرائيليين، حيث يقول في معرض الحديث عن الأسرى الثلاثة الإسرائيليين الذين قتلتهم القوات الصهيونية: «ما زال العدو يقامر بحياة جنوده الأسرى لدى المقاومة غير آبهٍ بمشاعر عائلاتهم، وقد تعمد إعدام ثلاثةٍ منهم، وآثر قتلهم على تحريرهم، وهو ذات السلوك الإجرامي المفضوح الذي مارسه ولا يزال بحق أسراه في غزة، في محاولةٍ يائسة منه للتخلص من عبء هذا الملف واستحقاقاته التي يعرفها جيدًا».
هذه الدعايات موجهة بالأساس إلى الشعب الإسرائيلي الناقم على حكومته التي لم تبالِ بالأسرى الإسرائيليين، ولم تستطع أن تفك رهان سوى خمسين من الأطفال والنساء في صفقة تبادل الأسرى، قبل أن تعود مجددا إلى استئناف الحرب بعد انقضاء وقت الهدنة. تمثل هذه الدعاية ضغطا شديدا على حكومة الاحتلال، التي بدا أنها تقدم مهمة القضاء على حماس على قضية إطلاق الأسرى، وفي الوقت ذاته زاد الضغط الشعبي الإسرائيلي على حكومة نتنياهو، بعد أن أخفقت حتى اليوم في تحقيق أهدافها، بل الذي يظهر يقينا للمشاهد، أن المقاومة الفلسطينية هي التي تمسك زمام الأمور، وتدير المعركة باقتدار، وتكبد القوات الإسرائيلية خسائر فادحة.
الحرب النفسية التي تشنها حماس على الاحتلال في ملف الأسرى، تتعلق بأهداف جديدة مع الانتصارات التي تحرزها ضد القوات الإسرائيلية، أبرزها أنه لا تفاوض بشأن الأسرى، إلا بعد وقف شامل لإطلاق النار، وهو ما يعني – حال قبول الاحتلال – إعلانا رسميا بانتصار المقاومة في هذه المعركة، وهذا بدوره أوقع نتنياهو في موقف بالغ الصعوبة، إما أن ينزل عند شروط حماس، ما يعني هزيمة تطيح بمستقبله السياسي، وإما أن يستمر في الحرب التي لم يستطع حسمها ويضعف موقفه فيها يوما بعد يوم، على أن يتحمل هذا الضغط الشعبي الإسرائيلي المتنامي، الذي ينذر في تقديرات البعض باحتمالات الانقلاب على الحكومة الإسرائيلية.
أسلوب إدارة المقاومة للمعركة عسكريا وسياسيا وإعلاميا غدا محل إعجاب وانبهار الصديق والعدو، بما يؤكد أن هذه المقاومة لا يمكن لها أن تنتهي على يد الصهاينة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
{ كاتبة أردنية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك