في سعيها لتطوير مزيج الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري لأبعد مدى حتى يمكنها تصدير معظم إنتاجها منه، تتبنى دول الخليج برامج عديدة لزيادة إنتاجها من الطاقة الجديدة والمتجددة، مستفيدة من الخبرات الدولية في هذا المجال، ومن بين مصادر الطاقة الجديدة تبرز «الطاقة النووية».
وفي إدراك لذلك، تبنى «المجلس الأعلى»، لمجلس التعاون الخليجي، هذه السياسة في دورته الـ(27) في الرياض. وفي ديسمبر 2006، أعلن الأمين العام الأسبق للمجلس «عبد الرحمن العطية»، عن اتجاه الدول الست الأعضاء للعمل معًا في برنامج مشترك للأبحاث النووية، بالتعاون مع «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، آخذًا في الاعتبار انتماءها لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وتوقيعها على اتفاقيات الوكالة الدولية للطاقة الذرية للحماية، وانضمامها إلى البروتوكول المعني بالكميات النووية الصغيرة، الذي يجيز للدول الأعضاء امتلاك كمية محدودة جدًا من بعض المواد المشعة.
ومن المعلوم، أن دول الخليج قد تخلت بإرادتها عن خيار الأسلحة النووية، وتبنت خيار «الصفر النووي». ومع ذلك، وتنفيذًا لقرار «المجلس الأعلى»، لمجلس التعاون، تم تسمية مدير إدارة الكهرباء والماء في الأمانة العامة للمجلس؛ عضوًا في الفريق المكلف بمتابعة دراسة استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية للمشاركة في أعمال الفريق، وتقديم تقرير سنوي لوزراء الكهرباء والماء، حيث قام الفريق المذكور بدراسات الجدوى الأولية، والدراسات التفصيلية، ووضع خطة استراتيجية للمشروع.
وفضلًا عن هذا العمل المشترك، لجأت بعض دول المجلس إلى خيار ثانٍ يتمتع باستقلالية، حيث قررت كل من «الإمارات»، و«البحرين»، و«قطر»، و«الكويت»، إجراء مفاوضات ثنائية مع «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»؛ بهدف تأسيس برامج نووية مدنية مستقلة خاصة بها. وعلى الرغم أن العوامل الجيوسياسية في هذا الوقت كانت الدافع الرئيسي وراء هذه السياسة، إلا أن هناك مسألة أخرى تثير القلق؛ وهي التوسع المضطرد في الفجوة التكنولوجية النووية، حيث باتت دول الخليج -بل والعالم العربي- تعاني من هذه الفجوة.
يأتي هذا فيما مضت «الإمارات»، و«السعودية»، في خطط لإنتاج الطاقة النووية. وفي أعقاب حادث محطة «فوكوشيما دايتشي»، للطاقة النووية في اليابان عام 2011، ألغت «الكويت»، و«عُمان»، و«قطر»، خططها، في حين حثت «أبو ظبي»، السير لإنتاج 5.6 جيجاوات من مشروع «براكة» متعدد الوحدات، مؤمنة 25% من حاجة البلاد للكهرباء. وجاء مشروع «السعودية»، الأكثر طموحًا، مشتملا على 16 مفاعلا نوويا بحلول 2032، بما تفوق طاقته الإنتاجية الإجمالية 15% من حاجة البلاد للكهرباء، فيما استمرت العوامل الجيوسياسية تجعل مسألة الطاقة النووية في منطقة الخليج نقطة خلافية.
وجاء إطلاق برنامج «الإمارات»، للطاقة النووية المدنية في أبريل 2008، بعد تقييم شامل لاحتياجاتها المتزايدة من الطاقة، وقدرتها على إنتاج الطاقة، آخذًا في الاعتبار أمن الإمدادات وإمكانات التنمية الاقتصادية على المدى الطويل، والعوامل البيئية، والأمن والأمان والسلامة. فيما غدت «الهيئة الاتحادية للرقابة النووية»، هي الجهة المسؤولة عن الإشراف على الأمان والأمن، والاستخدامات السلمية لكافة أنشطة الدولة المتعلقة بالإشعاع والاستخدام النووي، وفقًا لمعايير أمان «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، و«رابطة المنظمين النوويين لأوروبا الغربية»، وأفضل الممارسات الرقابية المعترف بها دوليًا.
علاوة على ذلك، فإن «الهيئة الاتحادية»، تقوم بتنظيم وترخيص الأنشطة النووية في الدولة، والتي تتضمن المواد المشعة، والمصادر المشعة المستخدمة في القطاع النووي، والطب، والبحوث، واستكشاف النفط، وصناعات أخرى، وإصدار تصاريح الاستيراد والتصدير للمواد ذات الصلة.
وفي 2009، تم إنشاء «مؤسسة الإمارات للطاقة النووية»؛ تلبية للأهداف المحددة المدرجة في سياسة الدولة بشأن الطاقة النووية؛ بهدف توفير طاقة نووية آمنة صديقة للبيئة فعالة اقتصاديًا، مع تطوير كفاءات الكوادر البشرية، وبناء سعة تشغيلية نووية مستدامة. وبموجب المشروع الذي تشرف عليه «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، يتم إنشاء 4 محطات في منطقة «براكة»، بأبي ظبي، بقدرة 1400 ميجاوات لكل وحدة.
ومنذ 2012، وقعت «الإمارات»، اتفاقات تعاون في مجال الطاقة النووية مع عدد من الدول (روسيا، واليابان، والأرجنتين، والولايات المتحدة)، وفيما تحد هذه المحطات الأربعة من 21 مليون طن من الانبعاثات الكربونية سنويًا، فإنه مع اقتراب استضافتها لـ«كوب 28»، أصبحت المحطات الثلاث الأولى تعمل بشكل تجاري، فيما أوشكت الرابعة على تمام الإنجاز. فيما يُعد مشروع «براكة»، للطاقة النووية من أكثر مشروعات الطاقة النووية، تقدمًا على الصعيد العالمي، وأول مشروع جديد يتم إنجازه منذ 27 عاما، ويحقق هذا المشروع للإمارات استدامة شبكة الكهرباء، وموثوقيتها، ومرونتها على مدى الـ60 عاما المقبلة على الأقل.
من جانب آخر، فإنه بمقتضى المرسوم الملكي الصادر في 2009، أصبح تطوير الطاقة الذرية «أمرًا أساسيًا»، تحتاجه «السعودية». وفي2010، استجابة للأمر الملكي لعاهل البلاد –آنذاك- «عبد الله بن عبد العزيز»، تم إنشاء مدينة «الملك عبد الله للطاقة الذرية والطاقة المتجددة»، بهدف إدراجها في منظومة الطاقة للمملكة.
وبينما تمتلك «الرياض»، قرابة 60 ألف طن من اليورانيوم الخام، فإنها تخطط لاستخراجه، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الوقود النووي، وتعتبر مسألة تخصيب اليورانيوم مسألة حساسة، لإمكان استخدامه عسكريًا، في حين تحتاج المفاعلات النووية إلى اليورانيوم المخصب بنسبة 5%. ومع تنامي عدد سكان المملكة، وارتفاع استهلاك الكهرباء والماء، فقد شرعت في استخدام مصادر بديلة مستدامة موثوقة لتوليد الكهرباء وإنتاج المياه. وبينما بلغت احتياجاتها 45 جيجاوات في 2023، فإنها تحتاج 120 جيجاوات في 2035، في الوقت الذي تسعى فيه لتخفيض الاعتماد على النفط والغاز.
ومن المعلوم أن «السعودية»، كانت قد أعلنت عام 2011 عزمها بناء 16 مفاعلًا نوويًا، بتكلفة تبلغ حينها (80 مليار دولار)، وفي 2016، صدر الأمر السامي القاضي بإنشاء المشروع الوطني للطاقة الذرية المقدم من مجلس الوزراء، ويستهدف دخول «المملكة»، المجال النووي السلمي، حيث ستوفر الطاقة النووية مصدرا آمنا، وفعالا، وموثوقا، وصديقا للبيئة، وتدعم استراتيجية تنويع مصادر الطاقة.
واشتمل البرنامج في مكونه الأول على المفاعلات النووية الكبيرة، (ما بين 1200-1600 ميجاوات للمفاعل الواحد)، وتحديد وتهيئة مواقع بناء أول محطة طاقة نووية، وتجهيز بنياتها التحتية، وتأسيس مدينة «الملك عبد الله للطاقة النووية»، للشركة «النووية القابضة»، لتكون كيانا قانونيا مستقلا معنيا بالمصالح التجارية للبرنامج الوطني للطاقة النووية، كما يشمل هذا المكون: «دراسة تقنيات المفاعلات النووية، والدراسة الفنية الأولية للتصاميم الهندسية». أما المكون الثاني للبرنامج؛ فهو توطين التقنيات وبناء المفاعلات الذرية الصغيرة المدمجة، والمكون الثالث؛ هو دورة الوقود النووي، والمكون الرابع النظم والرقابة.
وفيما تقوم مدينة «الملك عبدالله للطاقة النووية والمتجددة»، بأعمال المرحلة الثالثة والأخيرة من عملية تهيئة أول محطة للطاقة الذرية تحتوي على مفاعلين، واعتمدت مفاعلات الماء الخفيف المضغوط كمعيار مثالي؛ فقد بدأت السلطات السعودية مؤخرًا في دراسة طلب إصدار رخصة لموقع المحطة النووية، بعد الانتهاء من إعداد وثائق المواصفات الفنية للمنطقة التي تم طرحها في مناقصة دولية.
ويُعد مشروع مفاعل «سمارت»، أحد مكونات المشروع الوطني السعودي للطاقة النووية، الذي يتم بالتعاون مع «كوريا الجنوبية»، منذ 2018، ويهدف إلى توطين المعرفة النووية، ودعم سلاسل القيمة، ودخول «المملكة»، كمطور ومالك ومصدر مستقبلًا لتقنيات الطاقة النووية. ويعتبر هذا المفاعل من تقنيات الجيل الرابع الحديث جدًا، ويتميز بكونه متعدد التطبيقات، ترتفع فيه معايير السلامة، وسهولة إدخاله في الشبكة الكهربائية.
ومن المعلوم، أن كلا من «كوريا الجنوبية»، و«الصين»، و«فرنسا»، و«روسيا»، و«أمريكا»، قد تقدمت بعروض مبدئية لإنشاء المفاعلات، التي تضمنها البرنامج الوطني السعودي، وبلغت التكلفة التقديرية للمفاعل الواحد نحو (7 مليارات دولار)، بينما يبلغ عمر المفاعل نحو 100 عام، وتتراوح فترة إنشائه بين 12 – 15 سنة.
وفي حين تُعد «الولايات المتحدة»، المنتج الأول للطاقة النووية عالميًا -وقد سبق لها في 2008 توقيع مذكرة تفاهم مع السعودية، بشأن برنامج نووي سعودي مدني في إطار البرنامج الأمريكي «الذرة من أجل السلام»- فقد عقدت «الرياض»، محادثات مع «واشنطن»، للتعاون في شأن البرنامج النووي السعودي، بلغت ذروتها في 2019، في لقاء وزير الطاقة الأمريكي –حينئذ- «ريك بيري»، مع العاهل السعودي الملك «سلمان بن عبد العزيز»، وولي العهد الأمير «محمد بن سلمان»، حيث كانت «الرياض»، تخطط لبدء بناء محطتين، وصولًا إلى إنشاء 16 مفاعلًا، وحينها تمت الموافقة على سبعة تراخيص لشركات أمريكية سمح لها ببيع تكنولوجيا الطاقة النووية للسعودية.
فيما عاد التعاون «الأمريكي- السعودي»، في شأن البرنامج النووي إلى الواجهة مؤخرًا، بعدما اقترحت «الرياض»، على «واشنطن»، إنشاء مشروع مشترك بين البلدين لبناء برنامج نووي، تحت مسمى «أرامكو النووية»؛ تهدف من خلاله تحقيق طموحاتها الاقتصادية من إنتاج الطاقة النووية وتصديرها، وفي نفس الوقت معالجة المخاوف الأمريكية والدولية، بشأن انتشار الأسلحة النووية. علاوة على ذلك، أثارت «المملكة»، إمكانية تأسيس «الشركة العربية الأمريكية للطاقة النووية»، التي من شأنها منح الشركات والكيانات الأمريكية، دورًا في التطوير والإشراف على مشاريع الطاقة النووية في السعودية، على أن تتمكن الأخيرة من القيام بتخصيب اليورانيوم على أراضيها.
ومن الجدير بالذكر، أن «السعودية»، دخلت قبل ذلك في ترتيبات نووية مدنية ثنائية على مستويات وأنواع مختلفة، مع دول من بينها «الأرجنتين»، و«الصين»، و«فرنسا»، و«المجر»، و«كازاخستان»، و«روسيا»، و«كوريا الجنوبية»؛ إلا أن المفاوضات بشأن البرنامج النووي السعودي مع الولايات المتحدة، قد لاقت إصرارًا من الأخيرة على توقيع اتفاق يمنع الدولة الموقعة من إنتاج الوقود النووي لمفاعلاتها داخل أراضيها، إذ تصر على أن تستورد الدول الموقعة الوقود النووي من مصادر أجنبية.
يأتي ذلك مع تأكيد «الرياض، سلمية برنامجها النووي، وامتلاكها احتياطيات ضخمة من اليورانيوم تناهز 7% من الاحتياطي العالمي، وتطمح إلى دور قيادي في سوق الوقود النووي، بل ربما تصبح مصدرا للولايات المتحدة نفسها، فإذا ما ترددت أمريكا كثيرًا، فإن هناك منافسين آخرين جاهزين، وتكون أمريكا بذلك قد خسرت فرصة ذهبية كسبها هؤلاء المنافسون.
على العموم، فإن من يتابع السرعة التي يتم بها إقبال دول الخليج على الطاقة الجديدة والمتجددة، يدرك تمامًا مدى حاجتها إلى هذه الطاقة، رغم غناها بالنفط والغاز، وكأنها تسابق الزمن لتحقيق تنافسيتها في هذا المجال. ويعد هذا التحول من ناحية أخرى أحد أهم سياسات التنويع الاقتصادي لهذه الدول التي تجنبها تقلبات أسعار النفط، وتداعياتها على أوضاعها الاقتصادية، وتعزز دول الخليج ميزاتها النسبية في الطاقة الجديدة والمتجددة، بقدراتها التمويلية في الإنشاءات والتشغيل واكتساب التكنولوجيا الجديدة، كما تعزز مكانتها في أمن الطاقة محليًا وعالميًا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك