إن ما يرتكب اليوم من جرائم في قطاع غزة سيجد مكانه في كتب التاريخ -إنها قصة ملحمية لشعب صغير يرزح تحت حصار وحشي طويل سنوات عديدة، في مواجهة واحدة من أعظم القوى العسكرية في العالم. ومع ذلك فهو شعب يأبى الهزيمة.
ولا يمكن حتى مقارنة المثابرة الأسطورية لشخصيات ليو تولستوي في رواية «الحرب والسلام» ببطولة سكان غزة، الذين يعيشون على مساحة صغيرة من الأرض بينما يعيشون على شفا الكارثة، حتى قبل فترة طويلة من الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي نشهدها اليوم.
ولكن إذا كانت غزة قد أعلنت بالفعل أنها غير صالحة للسكن من قبل مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في وقت مبكر من عام 2020، فكيف يمكنها التعامل مع كل ما حدث منذ ذلك الحين، وخاصة الحرب الإسرائيلية الهمجية وغير المسبوقة، التي بدأت في أكتوبر 2023م؟!
«لقد أمرت إسرائيل بفرض حصار كامل على قطاع غزة» – ذلك ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في 9 أكتوبر 2023م: «لن تكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شيء مغلق». في الواقع، ارتكبت إسرائيل جرائم حرب أكبر بكثير من تضييق الخناق على 2.3 مليون شخص.
وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في يوم 11 نوفمبر 2023م: «لا يوجد مكان آمن، ولا حتى المستشفيات والمدارس». وقد أصبحت الأمور أسوأ بكثير منذ صدور هذا البيان.
ولأن سكان قطاع غزة قد أصروا على رفض مغادرة وطنهم، فإن مساحة 365 كيلومتراً مربعاً – تقريباً 141 ميلاً مربعاً – قد تحولت إلى أرض صيد للبشر الذين قُتلوا بكل الطرق الشنيعة التي يمكن تخيلها.
أما أولئك الفلسطينيين الذين لم يموتوا تحت ركام أنقاض منازلهم المهدمة أو أولئك الذين كادوا أن يقتلوا برصاص المروحيات الهجومية أثناء محاولتهم الهروب من منطقة إلى أخرى، فإنهم يموتون الآن من المرض والجوع.
ولم تنج فئة واحدة من الفلسطينيين من هذا المصير الرهيب: الأطفال والنساء والمعلمون والأطباء والمسعفون والمنقذون، وحتى الفنانين والشعراء. كل واحدة من هذه المجموعات لديها قائمة متزايدة من أسماء الضحايا، ويتم تحديثها يوميا.
ومع إدراكها التام لمدى جرائم الحرب التي ترتكبها في غزة، فقد ظلت إسرائيل تستهدف بشكل منهجي رواة القصص في غزة - الصحفيين وعائلاتهم، والمدونين، والمثقفين، وحتى المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي حين يصر الفلسطينيون على ضرورة بث آلامهم الجماعية ــ ومقاومتهم ــ على شاشات التلفزيون ونقلها إلى شتى مناطق ودول العالم، فإن إسرائيل تبذل كل ما في وسعها للقضاء على رواة القصص.
وفي هذا الصدد بالذات، قالت نقابة الصحفيين الفلسطينيين، في بيان لها أصدرته بتاريخ 6 ديسمبر 2023م، إن 75 صحفيا وإعلاميا فلسطينيا استشهدوا على يد إسرائيل منذ بداية الحرب- والقائمة تزداد.
إن الرقم المذكور أعلاه لا يشمل العديد من الصحفيين والكتاب المواطنين الذين لا يعملون بالضرورة بصفة رسمية، كما أنه لا يشمل أفراد عائلاتهم مثل عائلة الصحفي وائل الدحدوح أو عائلة مؤمن الشرفي.
ولأن سكان غزة يدركون أن مثقفيهم يشكلون أهدافاً لإسرائيل، فقد حاولوا سنوات إنتاج المزيد من رواة القصص. في عام 2015، شكلت مجموعة من الصحفيين والطلاب الشباب مجموعة أطلقوا عليها اسم «نحن لسنا أرقاما».
«نحن لسنا أرقامًا» تحكي القصص حول أعداد الفلسطينيين في الأخبار والمدافعين عن حقوقهم الإنسانية» - كذلك عرفت مجموعة «نحن لسنا أرقاما» نفسها.
أحد مؤسسي المجموعة هو الأستاذ رفعت العرعير، وهو أكاديمي فلسطيني محبوب من غزة. قال العرعير، المثقف الشاب، الذي لا يضاهي تألقه إلا طيبته، إن قصة فلسطين، وغزة على وجه الخصوص، يجب أن يرويها الفلسطينيون أنفسهم، الذين لا يمكن أن تكون علاقتهم بالخطاب الفلسطيني هامشية.
يقول رفعت العرعير في مساهمته في كتاب «النور في غزة: كتابة ولدت من النار»، «بينما تستمر غزة في التلهف للحياة، فإننا نكافح من أجل أن نحيا، وليس لدينا خيار سوى المقاومة وسرد قصصها من أجل فلسطين.
قام رفعت العرعير بتأليف العديد من الكتب، بما في ذلك «غزة تكتب مرة أخرى» و«غزة غير صامتة»، مما سمح له أيضًا بنقل رسالة المثقفين الفلسطينيين الآخرين في قطاع غزة إلى بقية العالم.
كتب رفعت العرعير يقول: «في بعض الأحيان يصبح الوطن حكاية. نحن نحب القصة لأنها تتحدث عن وطننا، ونحب وطننا أكثر بسبب القصة».
وبحسب ما ورد فقد رفض رفعت العرعير مغادرة شمال غزة، حتى بعد أن تمكنت إسرائيل من عزله عن بقية القطاع، مما أخضعه لمجازر لا حصر لها.
وكأني برفعت العرعير قد استشعر المصير الذي ينتظره، فقد غرد العرعير بهذا السطر، مع قصيدة كتبها: «إذا كان لا بد لي من أن أموت، فلتكن حكاية».
في يوم السابع من ديسمبر، أعلنت مجموعة الكتاب، «نحن لسنا أرقاما»، أن مؤسسها المحبوب رفعت العرعير، قُتل في غارة جوية إسرائيلية في شمال غزة.
ولم يكن العرعير العضو الوحيد في المجموعة الذي قتلته إسرائيل. وفي 14 أكتوبر استشهد كل من يوسف دواس، ومحمد زاهر حمو، مع أفراد عائلتيهما، في 24 نوفمبر، في غارات إسرائيلية على مناطق مختلفة من قطاع غزة.
وفي إحدى ورش العمل التي قمت بها مع المجموعة، قبل الحرب، برز يوسف دواس، ليس فقط بسبب شعره الطويل غير المعتاد، ولكن بسبب أسئلته الذكية والدقيقة. لقد أراد أن يروي قصص سكان غزة العاديين، حتى يتمكن الأشخاص العاديون الآخرون في جميع أنحاء العالم من تقدير النضال اليومي للشعب الفلسطيني، وسعيهم العادل من أجل العدالة وأملهم في مستقبل أفضل.
هؤلاء الرواة الذين ينقلون قصص معاناة الشعب الفلسطيني إلى العالم قتلوا جميعاً على يد إسرائيل، على أمل أن تموت الحكايات معهم. لكن إسرائيل ستفشل لأن القصة الجماعية أكبر منا جميعا. إن الشعب الذي أنجب أمثال غسان كنفاني وباسل الأعرج ورفعت العرعير، سوف تنتج دائماً مثقفين عظماء، سيخدمون الدور التاريخي في رواية قصة فلسطين وتحريرها.
آخر قصيدة كتبها الدكتور رفعت العرعير بالإنجليزية، وبثها في أعلى حسابه على منصة «إكس»، يقول فيها:
«إن كان لا بدّ أن أموت
فعليك أن تعيش أنت
لتروي قصّتي
وتبيع كلَّ أشيائي
وتشتري قماشةً وعُصباً
ولتكن بيضاء طويلة
حتى يرى طفلٌ في مكان ما من غزّة
السماء في عينيه
مُنتظراً أباه الذي رحل في لمح البصر
دون أن يُودّع أحداً،
ولا حتّى جسده
يرى الطفل الطائرة الورقية، طائرتي
التي صنعتها، تُحلّق عالياً
ويظنّ للحظة أن في السماء ملاكاً،
يُعيد الحبّ،
إن كان لا بدّ أن أموت
فليأتِ موتي بالأمل
فليصبح حكاية».
*الدكتور رفعت العرعير، أستاذ الأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية بغزة، قام بتدريس أعمال ويليام شكسبير، لذلك، في حين أنه من المؤثر أن يتم نشر قصيدته على نطاق واسع منذ وفاته، فإن عواطف العرعير سيكون لها صدى.
{ أكاديمي وكاتب صحفي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك