يحتوي العالم على ثماني ممرات بحرية استراتيجية يطلق عليها «شرايين التجارة الدولية» من بينها مضيق باب المندب الذي يكتسب موقعاً استراتيجياً لكونه يصل البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي من جهة، والبحر المتوسط من جهة أخرى، ويقع بين اليمن وجيبوتي ويمر منه 4 ملايين برميل من النفط يومياً وتزداد أهميته لارتباطه بقناة السويس ومضيق هرمز، حيث إن عرقلة الملاحة البحرية في ذلك المضيق يعني عملياً أن السفن لا يمكنها المرور عبر قناة السويس وإنما سوف تضطر إلى العبور من خلال رأس الرجاء الصالح في مسافة أطول وأكثر عرضة للمخاطر، وتعتمد دول الخليج العربي على المضيق بشكل رئيسي في تجارتها مع شرق آسيا.
المضيق أصبح حديث وسائل الإعلام العالمية بل الباحثين بشكل يومي مع زيادة حوادث اعتراض عبور بعض السفن التجارية على خلفية الحرب في غزة بل إجبارها على تغيير مسارها، الأمر الذي آثار تساؤلات حول مضامين وتوقيت تلك الحوادث لسببين الأول: أن تلك الحرب لم تكن منشأة لتهديدات الأمن البحري عموماً وفي المضائق الاستراتيجية على نحو خاص ولكنها كشفت عن واقع تهديدات الأمن البحري وتأثيرها على مصالح دول العالم أجمع التي تعتمد بشكل يومي على البحار في تجارتها الدولية، والثاني: هو ما أشرت إليه في مقالات سابقة هو أن ضمان الأمن البحري يرتبط على نحو وثيق بالصراعات الإقليمية فهو أكثر المجالات تأثراً بها بالنظر لسهولة استهداف الأهداف البحرية بكلفة أقل وفي وقت سريع للغاية.
حتى كتابة هذه السطور بلغت حوادث استهداف السفن في مضيق باب المندب ما يزيد على 15 حادثة منذ يناير من العام الحالي، وربما تكون التقديرات أكبر من ذلك، فهناك بعض الجهات الدولية المعنية برصد تلك الحوادث، بالإضافة إلى حوادث اعتراض عمليات تهريب الأسلحة أو المخدرات بعضها معلن عنه والبعض الآخر غير معلن، ومن ثم تثار تساؤلات ثلاثة أولها: لماذا تزداد وتيرة تهديد الملاحة البحرية في مضيق باب المندب؟ وثانيها: ما هي ردود الفعل الإقليمية والعالمية؟ وثالثها: هل تندلع مواجهة عسكرية بحرية بالقرب من مضيق باب المندب؟
وبداية فإن توظيف البحار في الصراعات ليس بالأمر الجديد، بل كان أحد ركائز قوة الدول البحرية التي تحظى بمزايا استراتيجية مقارنة بتلك الحبيسة وهو سر تفوق القوة الأمريكية، حيث تسيطر الولايات المتحدة على مفاصل الأمن البحري العالمي من خلال ثمانية أساطيل، ولكن الأمر في الوقت الراهن لا يرتبط بالدول ولكن الجماعات دون الدول التي تجد في البحار مجالاً ملائماً لإدارة الصراعات الإقليمية وخاصة في ظل الحجم الكبير للسفن التجارية وبطئ حركتها مقارنة بحركة القوارب الحديثة والسريعة، من ناحية ثانية فإن تأمين الملاحة البحرية في المضائق الدولية يقع في المقام الأول على عاتق الدول المشاطئة لها وبقدر ما تكون قوتها البحرية بقدر ما يمكنها تسهيل مرور الناقلات التجارية، أما الأمر الثالث فهو إدراك الجهة المهاجمة لنتائج تلك الاعتداءات وأهمها تدويل تلك الحوادث، فأحياناً تكون ملكية السفينة لشخص ما ومن يعملون عليها ينتمون لدول أخرى ويحدث الاعتداء عليها في مياه إقليمية لدولة أخرى بما يعنيه ذلك أنها أصبحت قضية تهم عدداً كبيراً من الدول.
واتصالاً بما سبق تدرك دول العالم أهمية تأمين الممرات المائية الحيوية لاقتصادات الدول ولكن الملاحظ على الجهود الإقليمية والدولية ثلاثة ملاحظات الأولى: كغيرها من القوانين الدولية لا توجد قوة تلزم الدول بالالتزام بمضامين اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 والتي حددت وبوضوح العديد من المفاهيم والقواعد ذات الصلة بحماية الملاحة البحرية وحق المرور البري وغيرها من الأمور ذات الصلة، ولا أقول إن العالم بحاجة إلى المزيد من القوانين الدولية في مجال الأمن البحري ولكن مدى إلزاميتها؟ والثانية: عدم التناسب بين الفعل ورد الفعل، فمقارنة بحقبة الثمانينيات على سبيل المثال كان رد الفعل الدولي حاسماً وقوياً وفورياً عندما تم استهداف الناقلات التجارية التي تقصد وتخرج من موانئ دول الخليج العربي من خلال إعلان إدارة ريجان تأسيس تحالف بحري لتأمين الملاحة في الخليج العربي بل إنه كان واضحاً دور الأمم المتحدة من خلال إصدار ثلاثة قرارات نص اثنان منها صراحة على تأكيد حرية الملاحة والتجارة في المياه الدولية، إلا أن الرد الدولي على الهجمات الراهنة يتعامل مع كل حالة على حدة ومن خلال رد الفعل المحدد دون وجود استراتيجيات طويلة المدى لتأمين الملاحة في مثل تلك المضائق، صحيح أن هناك القوات المتعددة الجنسيات بالإضافة إلى بعض الأطر الإقليمية مثل تجمع الدول المطلة على البحر الأحمر الذي تأسس عام 2020 ولكن ما أقصده هو أنه لا توجد قوة بحرية معنية بحراسة تلك الناقلات وتحقيق الردع تجاه أي تهديدات وهنا تجئ دعوة السيد جاسم البديوي الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية «بإنشاء تحالف دولي لمواجهة أي تعطل لإمدادات الطاقة»، مؤكداً ضرورة «التعاون الدولي وحماية البنية التحتية للطاقة وطرق النقل لمواجهة أي تهديدات محتملة، سواء كانت عسكرية أو سيبرانية» وذلك خلال إلقاء كلمته أمام حوار المنامة الأمني التاسع عشر في نوفمبر 2023.
وإذا كان الحديث عن تلك الحوادث وردود الفعل تجاهها قد أضحى أمراً معتاداً فإن التساؤل المهم: هو هل تندلع مواجهات عسكرية في البحار بالقرب من باب المندب؟ وواقع الأمر أن الحديث عن عمل عسكري لتأمين الملاحة في تلك المنطقة لم يغب عن الخطاب الرسمي الأمريكي بدون تحديد المصدر ولكن لن يكون ذلك بشكل منفرد، فهناك أطراف دولية أخرى يمكنها المساهمة في تلك الجهود ومنها حلف الناتو الذي أرسل سبع سفن عام 2008 قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي لمواجهة خطر القرصنة وكذلك دور الاتحاد الأوروبي، ومع بقاء كافة الاحتمالات قائمة فإن الأمر الذي يبعث على القلق ليس بشأن رد الفعل الدولي ولكن منظومة الأمن الإقليمي في منطقة البحر الأحمر وهي المنطقة التي لا يوجد لها نظام متكامل للأمن الإقليمي حتى الآن بالرغم من أن إجمالي سواحل الدول العربية الست المطلة عليه تتجاوز 84% من تلك السواحل مقارنة بالدول الأخرى، وقد كانت هناك اعتراضات مصرية خلال صياغة مدونة سلوك جيبوتي بشأن أعمال القرصنة والسطو عام 2017 ومعارضة انتهاك سفن الدول الكبرى للمياه الإقليمية للدول، وبافتراض الاتفاق على تحالف بحري من سوف يقوده؟ وما مصادر تمويله وآلية عمله؟ بل وتأثيره على معادلة الأمن الإقليمي؟ جميعها تساؤلات يجب أن تبقى محل اهتمام.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك