كل إنسان يعيش على سطح الأرض ويسكن المدن الكبيرة، فإنه يشهد كل يوم الزحمة المرورية واكتظاظ الشوارع بالسيارات، سواء في ساعات الذروة أو الساعات الأخرى من اليوم والليل، وهذه الظاهرة أصبحت الآن تشكل في هذه المدن وباءً بيئياً وصحياً واجتماعياً يصعب حله جذرياً، واستئصاله كلياً من مدن العالم. فدول العالم سمحت بالزيادة السنوية المطردة بالسيارات بشكلٍ عشوائي غير منهجي وبدون أي تخطيط أو رقابة علمية، وبدون أن تكون جاهزة ومستعدة لوجستياً لإدارة هذه الأعداد المهولة من السيارات التي تسير في شوارع المدن.
واليوم نشهد حالة وظاهرة مماثلة، ولكنها ليست في الشوارع على سطح الأرض، وإنما في الشوارع الموجودة في أعالي السماء، أو ما نُطلق عليه بالمدارات السماوية في الفضاء، سواء أكانت الشوارع والمدارات المنخفضة حول الأرض، أو المدارات العالية والمرتفعة جداً فوق سطح الأرض.
ولكن الفرق يكمن أنه في حالة الازدحام المروري في الشوارع على سطح الأرض فإن كل إنسان صغير أو كبير، عالم أو جاهل يشهد ويتحسس تداعيات هذه الظاهرة المتفاقمة من جميع النواحي، ولكن الازدحام المروري فوق سطح الأرض وفي أعالي السماء لا يراه الإنسان العادي، ولا يستشعر خطورته معظم سكان الأرض، إلا العلماء المختصون الذين يتابعون بأجهزتهم ومعداتهم تطورات هذه الظاهرة العلوية، ويراقبونها عن بعد، فهم فقط يدركون تداعياتها والمخاطر المحتملة التي تنجم عنها، فلا يعلمون علم اليقين وبالدقة المطلوبة العواقب الوخيمة على المدى القريب والبعيد التي ستنجم عنها عاجلاً أم آجلاً.
وهذا الازدحام المروري الذي يزيد ويتفاقم يوماً بعد يوم، نجم في تقديري عن عدة أسباب، أو من عدة مصادر. أما المصدر الأول فهو الأقمار الصناعية التي يُطلقها الإنسان لأسباب كثيرة متنوعة منها للاتصالات وشبكة الإنترنت، أو المناخ والأرصاد ومراقبة تغيرات الطقس على وجه الأرض في كل دولة، أو البيئة ومراقبة ورصد الملوثات في الهواء الجوي، أو التجسس على المواقع في دول العالم، أو تحديد المواقع على سطح الأرض، أو غيرها من الأسباب التي لا نعلم عنها شيئاً. فمنذ الرابع من أكتوبر عام 1957، أي قبل أكثر 66 عاماً، انْطلقَ القمر الصناعي الروسي الأول إلى الفضاء واستقر في مداره فوق سطح الأرض، وكان ذلك اليوم إيذاناً بالبدء في غزو الفضاء واستعماره بمختلف أنواع وأحجام الأجسام الفضائية، وكان جرس البدء في مجال علمي جديد هو دراسة التطبيقات الفضائية خدمة للإنسانية في جميع القطاعات. واليوم نشهد انفجاراً في انطلاقات جديدة سنوية وبوتيرة متزايدة ومتسارعة لهذه الأقمار الصناعية من الدول والشركات الخاصة بأحجام وأوزان متفاوتة، فمنها الذي يزن طناً واحداً، أو أكثر من 200 كيلوجرام، ومنها الأقمار الصناعية الصغيرة جداً التي لا تتعدى كيلوجرامات بسيطة، وكأنها ألعاب الأطفال.
وهناك اليوم شركات متخصصة تجارية وبحثية وخاصة للدول تقوم بتصنيع هذه الأقمار الصناعية حسب الطلب، وتدشينها في مداراتها فوق سطح الأرض، مثل شركة «سبيس إكس» (Space X) الذي أَطلق مشروعه المعروف «ستار لينك» (Starlink)، ويهدف إلى إرسال 12 ألف قمر صناعي صغير بحلول عام 2025. كذلك فإن شركات الأمازون ستكون لها أقمارها الصناعية لشبكة الإنترنت، والتي قد تصل إلى قرابة 3200. ولذلك فإن هناك عدة تقديرات متعلقة بعدد الأقمار الصناعية التي تحوم حول الأرض في مداراتها الأرضية المنخفضة، فبعض التقديرات تفيد بوجود أكثر من 12200 قمر صناعي، بحسب وكالة الفضاء الأوروبية، وهذا العدد من المحتمل أن يرتفع إلى نحو 60 ألفا بحلول عام 2030.
والمصدر الثاني الأقل عدداً، والأكبر حجماً، والأقل تأثيراً على الاكتظاظ المروري في أعالي الفضاء، فهو المركبات والسفن الفضائية ومحطات الأبحاث التي تُطلقها في بعض الأحيان مجموعة من الدول، ومن أشهرها السفينة الفضائية الدولية التي أُطلقت في 20 نوفمبر 1998، وستنتهي صلاحيتها في 2031 بعد أكثر من ربع قرن من العمل والإنجازات والتجارب النافعة.
وأما المصدر الثالث الذي يسبب ازدحاماً مروريا في شوارع السماء فوق سطح الأرض، فهو المخلفات الفضائية التي تنجم عادة من الأقمار الصناعية التي تقف عن العمل، أو تنتهي صلاحيتها، أو من بقايا أجزاء الصواريخ التي تحمل الأقمار الصناعية والسفن الفضائية، أو من حوادث الاصطدامات بين هذه الأجسام في المدارات فوق سطح الأرض، فتُكون أجساماً أصغر تسير في هذه الشوارع وتسبب الازدحام المروري. وقد طرح عالم أمريكي في عام 1978 نظرية سُميت باسمه، وهي «ظاهرة كسلر» (Kessler Syndrome)، ومُلخصها أن المخلفات الصغيرة الحجم تصطدم مع بعض وتكون مخلفات أكثر وأصغر، واحتمال الاصطدام يزيد يوماً بعد يوم، فكل حادثة اصطدام تُولد مخلفات جديدة صغيرة تزيد من احتمال الاصطدام مرة ثانية فيؤدي إلى نمو وتكوين حزام من المخلفات حول الأرض يشكل تهديداً للسفن الفضائية والأقمار الصناعية الأخرى.
والآن يقف الإنسان حائراً على ما ارتكبت يداه من ظاهرة فضائية لم يكن يتوقعها أن تكون بهذا الحجم، وأن تنكشف بهذه السرعة، ولا يعلم أحد عدد وحجم هذه المخلفات، أو الأجسام الفضائية التي تحوم حول الأرض، وكأنها في سباق لا نهاية له. وقد قدَّر «مكتب برنامج مخلفات المدار» (Orbital Debris Program Office) التابع لناسا عدد المخلفات بنحو 36500 قطعة أكبر من 10 سنتيمترات، ومليون جسيم، أو قطعة مخلفات يتراوح حجمها بين 1 إلى 10 سم، و330 مليون قطعة مخلفات أصغر من 1 سم وأكبر من 1 ملم.
وهذه الظاهرة المتمثلة في الاكتظاظ المروري الفضائي لها سلبيات كثيرة ولها علاقة بأمن وسلامة السفن والمركبات الفضائية ورواد الفضاء، إضافة إلى الأقمار الصناعية. ولذلك أصدر البيت الأبيض في 18 يونيو 2018 قراراً توجيهياً حول سياسة الفضاء تحت عنوان: «السياسة الوطنية لإدارة الحركة الفضائية». وهذه السياسة تدعو إلى تطوير مدخل جديد لإدارة الحركة الفضائية، منها وضع معايير ومواصفات السلامة، وتحديد أفضل الممارسات والإجراءات وأكثرها ثقة ومصداقية للتنسيق في مجال الحركة في الفضاء والأنشطة الأخرى. كما أن الأمم المتحدة نشرت دليلاً في عام 2007 تحت عنوان: «المبادئ التوجيهية لتخفيف مخلفات الفضاء» (UN Debris Mitigation Guidelines)، وفي عام 2016 أصدرت لجنة الأمم المتحدة حول الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي خطوط ومبادئ عريضة لحماية البيئة الفضائية.
وهذه المشكلة الحديثة المشتركة والعامة المتمثلة في الازدحام المروري في الفضاء وتفاقم أعداد وأحجام المخلفات في المدارات الأرضية العليا سيكون حلها مثل حل القضايا الأخرى، كالتغير المناخي، والمخلفات البحرية، وبالتحديد المخلفات البلاستيكية، وقضية استخراج المعادن في أعماق المحيطات، فالحل يعتمد على مصالح الدول الصناعية المتقدمة والمتنفذة على القرار الدولي، والحل يكون لما يصب في مصلحتهم وليس للمصلحة العامة، أي مصلحة الدول النامية الفقيرة ومصلحة كوكبنا بشكلٍ عام.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك