مرة أخرى تقول الولايات المتحدة إنها جزء من هذه الحرب على شعبنا الفلسطيني، وإنها لا تؤيدها فقط، بل تقاتل إلى جانب دولة الاحتلال في محاولاتها للقضاء على شعبنا.
فالفيتو الأمريكي رغم أنه ليس جديدا، ويجب ألا يكون مستغربا، إلا أنه جاء في وقت كان العالم فيه ينتظر أن يتم التعامل مع المذابح التي يتم ارتكابها بحق شعبنا بقليل من الاحترام. القرار لا يفرض عقوبات، ولا يدعو إلى إرسال الجيوش، بل يطلب وقف إطلاق النار، وعليه فإن موقف واشنطن هو مواصلة إطلاق النار ومواصلة المذابح بحق الأبرياء. هل هذا جديد على إدارة نذرت نفسها لدعم الاحتلال واحتلالها دولا، وعاثت فسادا بدول كثيرة في العالم!
مرة أخرى هذا الفيتو يعيد النقاش حول مسألتين مهمّتَين، تتعلق الأولى بالمواقف من الحرب، فيما تتعلق الثانية بالسؤال حول جدوى المنظمة الدولية ونظام التصويت فيها وفي مجلس الأمن، وفكرة الخَمس أصحاب حق النقض.
ففيما يتعلق بالمسألة الأولى، فإن مواقف الدول، على الرغم من تغير الكثير منها، إلا أنها ما زالت تعاني من خلل أخلاقي. فالعالم يطلب من دولة الاحتلال وقف إطلاق النار ولا يتحدث عن معاقبتها، ولا أحد يتحرك من أجل الضغط لإنهاء الاحتلال. في أحسن الأحوال يجب أن تنتهي الحرب، وهو مطلب بالنسبة إلينا - مَن نعيش في غزة - مهم وحيوي بشكل كبير؛ لأنه يعني وقف شلال الدماء ولجم القوة الغاشمة عن مواصلة مذابحها. ولكنّ الحقيقة أن ثمة مطلباً بضرورة محاكمة دولة الاحتلال.
على العالم أن يقف ولو دقيقة أمام السؤال الأخلاقي، ويجب أن يدلل على مدى صدقه وهو يتحدث عن العدل والمساواة ومنظومة القيم المفقودة حينما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية وبمعاناة الشعب الفلسطيني. عليه أن ينحاز أكثر إلى الصدق الذي يحاول أن يتهرب منه لأنه عاجز عن قول «لا» لدولة الاحتلال، ولأنه يريد أن يساوي بين الضحية والجلاد، ولأنه يريد ألا تغضب منه واشنطن التي لا تتردد في النقض والرفض. ويمكن بمراجعة تاريخ البيت الأبيض أن يدرك المرء أن أمريكا لا تعترف بالمنظمة الدولية ولا تحترمها إلا حين يتعلق الأمر بتمرير سياساتها العدوانية تجاه العالم. فقط ولسنّ الأربع عشرة لم تعترف بها واشنطن وقتها وهي من اخترعتها، كذلك مواقف واشنطن من المحكمة الجنائية الدولية.
الولايات المتحدة دولة فوق القانون، وهي ترى نفسها أكبر من التنظيم الدولي برمّته، ولا ترى أي خطأ في الخروج عنه وفي وقف نشاطه. الدولة التي تتصرف أنها أكبر من الجميع لا ترى في الجميع إلا كومبارس فيما تدير هي العالم. يمكن لها أن تفعل ما تشاء، وأن تتخذ من المواقف ما تشاء دون أن يقف في طريقها أحد. أمريكا أكبر من العالم ويصل بها الحد إلى أن تكون أكبر معطل للقرارات الأممية، وأكثر من يستخدم حق النقض خاصة فيما يتعلق بنا.
هذا يقودنا إلى الموضوع الآخر المتعلق بطبيعة التنظيم الدولي القائم، والحاجة إلى وجود تنظيم دولي جديد. للأسف فإن محاولات دول العالم الأخرى جميعها فشلت في إصلاح النظام الدولي الذي تعيق فعاليته واشنطن، والذي تتعطل الكثير من أعماله بسبب رفض واشنطن وتعنتها. العالم كان أجمل مثلاً خلال الحرب الباردة؛ حين كان هناك من يقول «لا» لهذا الصلف والتعنت، وكانت بعض قواه حتى غير الكبرى ولكن الفاعلة تقيم اجتماعات ومؤتمرات تواجه فيها بطش أمريكا بالعالم وتخريبها لمنظومة القيم التي كانت تسود فيه. هذا الزمن انتهى، وللأسف بات الجميع يحاول أن يجد مكاناً في قاطرة الأمركة التي تعني أن تتخلى عن كل مواقفك كي تدعم موقف واشنطن أو الصمت في أحسن الأحوال.
هل هذا حنين لزمن الحرب الباردة؟ الحنين في السياسة فشل، لكن للحظة يمكن اعتبار هذا حنيناً لزمن جميل، للزمن الذي كان بعض زعماء العالم يهاجمون «جارة كندا» ولا يهابون من انتقادها، بل وعمل كل شيء من أجل إفشال خططها ومعارضة سياساتها في العالم. فالعالم بالنسبة لهم لم يكن أمريكا، وأمريكا ليست العالم ولا هي قدرنا. خلال ذلك الزمن، قبل انهيار جدار برلين، كان ثمة خير في العالم، كان هناك البعض ممن يتمسكون بالأخلاق التي باتت غائبة في ظل عالم أمريكا القائم على ظلم الشعوب ومهاجمة من يقف في وجهها.
لم يعد شكل التنظيم الدولي على ما هو عليه يصلح لقيادة العالم. فليس من حق خمس دول أن تقرر نيابة عن الجميع. في زمن الحرب الباردة ربما كانت هناك حاجة إلى البحث عن توازن في السياسة الدولية، لذلك تم وضع هذا الشكل من التنظيم العلوي بما يكفل عدم تفرد دولة بالقرار الأممي من أجل منع اندلاع حرب كونية ونووية، لكن هذا لم يعد موجوداً. أيضاً في ذلك الزمن كان عدد الدول التي تمتلك السلاح النووي قليلاً، وكانت القوى الاقتصادية ليست كما هي عليه الآن.
العالم اختلف الآن، وصار لا بد من دخول بعض الدول الأخرى إلى ملعب النادي الحصري للفيتو أو إلغاء نظام الفيتو ذاته. فالعالم بسبب هذا الفيتو لم يستطع القول «لا» لقتل الأطفال، العالم بسبب الفيتو لم يتمكن من الصراخ في غرفة مغلقة مطالباً بوقف الدم، العالم بسبب الفيتو ظل عاجزاً عن النظر إلى وجه امرأة عجوز في مخيم جباليا والاعتذار حتى لو لم يكن قادراً على فعل شيء حقيقي.
نظام الفيتو نظام عقيم، ويعيق العالم عن أن يكون عالماً من الإنسانية، ويعيدنا إلى زمن الوحوش المتحاربة. والحقيقة أن كل فكرة المنظمة الدولية، التي تقول واشنطن إنها تصرف عليها، لذا فهي من يوجه سياساتها، بحاجة لإعادة نظر. العالم يستحق أفضل من أمريكا لقيادته.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك